رشا كافي
في ظل جمود العملية السياسية، وتآكل المشروع الوطني أمام تمدد الحوثيين، تسعى أطراف فاعلة كالسعودية إلى إعادة توظيف الرموز القديمة في سبيل بناء معادلة سياسية جديدة، قد لا ترضي الجميع، لكنها تبدو ممكنة ضمن واقعية إقليمية متحولة من خلال إعادة تشكيل وعي الناس بطرق عدة آخرها الفلم الوثائقي الذي بثته قناة العربية ويسلط الضوء على المعركة الأخيرة بين علي صالح والحوثيين، في الحقيقة لا أريد الحديث عن توقيت الفلم والذي ربما الهدف منه ترسيخ صورة صالح كبطل جمهوري قاتل الحوثيين في لحظاته الأخيرة لأجل تسويق أحد أبنائها للمشهد السياسي خلال الأيام القادمة.
ولا أريد الخوض في تفاصيل تحالف صالح مع الحوثيين الجميع يعرف تفاصيلها والفلم كان منصفاً في سردها بلغة توثيق محايدة دون أي تحيز حتى وأن طغى على آخر الفلم سردية بطولة صالح في لحظاته الأخيرة إلا أنه جأت ضمن تفاصيل الفلم وشهادات حية ممن عايشوا الحدث.
أريد الحديث من زاوية مختلفة تماماً إذ يقوض الفيلم السردية الحوثية القائلة إنهم شركاء في إسقاط النظام السابق، ويظهرهم كجماعة غدر ولا عهد لها، جماعة إنقلابية دمرت تحالفها مع صالح
لأجل مصلحتها ومستقبلها، إلا أنه أرد أيضاً إعادة تشكيل ذاكرة اليمنيين الجمعية، من خلال تصوير علي صالح كقائد جمهوري قُتل مدافعاً عن الدولة ضد المشروع الإمامي لتحفيز قواعد المؤتمر في مناطق سيطرة الحوثيين وتحريك مشاعرهم حول المشروع السياسي والأخلاقي للجماعة بل وحتى لتحريك مشاعر اليمنيين بشكل عام.
ولكن مالم يكن في الحسبان بأن تفصيلة مقتله ومكان تصفيته التي تحدث به إبنه مدين بسردية مختلفة تماماً عن السردية التي روج لها اتباع صالح طوال ثمان سنوات ستخلق كل هذا الجدل بل وصلت لحالة من الإنكار من قبل أتباع صالح أنفسهم الذين اصبحوا يكذبوا شهادة مدين نفسه بل وجزء منهم أتهمه بقبض أموال لأجل يدلس مثل هذه الأقوال، وذلك لأن الوعي الجمعي لأتباع صالح تشكل في ذهنه سردية مقدسة حول مكان مقتل صالح، سردية مقتله في بيته والذي توحي لهم بصورة القائد الصامد والمقاوم في منزله حتى الرمق الأخير ولم يهرب كجبان أو خائن، لذا فإن نسف هذه السردية حتى وإن كان من ينسفها هو إبن صالح نفسه ومن شهد معه معركته الأخيرة ينظر إليه كتهديد للهوية الرمزية والمعنوية التي بنيت عليها ذاكرة إنتفاضة ديسمبر 2017 حيث ستزعز من أذهانهم أسطورة البطل، لأن القول إنه قُتل وهو في طريقه إلى حصن عفاش يزرع الشك في بطولته ويخلق ثغرة في أسطورته وهذا يزعزع البطل الجماعي الذي يلتف حوله الناس نفسياً وسياسياً، لذا رأينا مهاجمة مدين نفسه والتشكيك حتى بأقواله، لأنه خرق التابو بشهادته تلك بالرغم أنها تفصيلة جغرافية وكان يجب النظر لها كحقيقة تاريخية فالرجل غير تكتيك المعركة من منزله في الأمانة إلى حصن عفاش نتيجة عوامل عدة ولم يكن هارباً تجاه مأرب كما روج لذلك الحوثيين بدليل رفضه للوساطة العمانية لتأمين خروجه، إلا أن الجمهور لا يفكر بالتكتيك العسكري بقدر تفكيره بالرمزية والبطولة بمقتله داخل منزله، فتغيير موقع المعركة، حتى لو كان له مبرر عسكري، ينظر إليه من قبل الجمهور كتراجع أخلاقي وليس كتحرك تكتيكي، ببساطة رمزية مقتله في بيته هنا أهم من التكتيكات العسكرية.