آخر الأخبار

spot_img

محمود درويش بين الزعتر والصبّار

“صحيفة الثوري” – ثقافة وفكر:

صدر حديثاً عن دار سامح للنشر في السويد كتاب «محمود درويش، بين الزعتر والصبّار» للكاتب السوري المقيم في النرويج محمد الحاج صالح.

وفي كتابه «محمود درويش، بين الزعتر والصبّار»، يقدّم محمد الحاج صالح نصاً نقدياً استثنائياً يعيد قراءة تجربة أحد أبرز أعمدة الشعر العربي الحديث، واضعاً إياها تحت مجهر التأويل الرمزي والأسطوري، ومتكئاً على حس فلسفي وبصيرة أدبية رفيعة.

يبرز الكتاب في طبعته الثانية (دار سامح للنشر- السويد، الطبعة الثانية 2025) كواحد من الأعمال القليلة التي استطاعت أن تزاوج بين التحليل الأكاديمي الدقيق، والحساسية الشعرية التي تلامس أعماق التجربة الدرويشية، دون أن تقع في فخ الاستعراض أو التقرير النظري الجافّ. وقد نأى المؤلف بنفسه عن القراءة الخطابية أو التلخيص التقليدي، متجهاً إلى تفكيك جماليات النص وتكويناته الأسطورية، ليضيء بذلك تحولات الشاعر من «النبرة الرسولية» الجامعة إلى «الاعتراف الحميم» والانكسار الوجودي، وصولاً إلى مناطق الصمت والغياب، التي أصبحت إحدى سمات الشعر الدرويشي في مراحله الأخيرة.

ينقسم الكتاب إلى فصول تتناول خمس قصائد مفصلية: «أحمد الزعتر»، «أبد الصبّار»، «كم مرة ينتهي أمرنا»، «أطوار أنات»، و«عندما يبتعد». في كل فصل، يعيد الحاج صالح تركيب العلاقة بين النص وسياقه الرمزي والتاريخي، في قراءة تتراوح بين التفكيك البنيوي والاستحضار الميثولوجي والتحليل النفسي.

في قراءته لقصيدة «أحمد الزعتر»، يتوقف عند استحضار البطل الجمعي الفلسطيني، حيث يتحول الزعتر من مجرد نبات إلى رمز أسطوري للانتماء والأرض والخلاص. يرصد المؤلف كيف تنمو الملحمة في لغة درويش بين الحلم الجماعي وتصدع الذات الفردية، وكيف تلوح في الأفق إشارات تفكك البطولة وتحوّلها إلى طقس جمعي يعيد إنتاج الغياب بقدر ما يبشر بالخلاص.

أما في «أبد الصبّار»، فيبرز المؤلف قدرة درويش على إعادة تعريف مفاهيم الثبات والبطولة من خلال الصبر، حيث يتحول الصمت إلى مقاومة، ويغدو الألم مساحة للتأمل في جدوى الانتظار ومعنى الصمود. هنا تظهر براعة الكاتب في كشف الطبقات النفسية والرمزية للقصيدة، إذ ينقلب الحنين من فضاء للاحتفاء إلى سؤال وجودي عن مرارة البقاء وتكرار الألم. تتعمق القراءة في قصيدة «كم مرة ينتهي أمرنا»، حيث يسيطر البعد الوجودي على لغة الشاعر، وتتحول المناجاة الداخلية إلى بحث عن معنى الفناء والتكرار العدمي. تتجلى هنا قسوة الفقد، وانكسار التواصل بين الأجيال، ويصبح الموت فعلاً ضرورياً يعيد الشاعر إلى وعي الزوال. يلتقط الكاتب كيف تمثل القصيدة ذوبان الجسد في رموز الطبيعة وتلاشي الحوار إلى صمت كثيف.

وفي قراءته لـ«أطوار أنات»، يصل المؤلف إلى ذروة التأمل الميثولوجي؛ حيث تتحول شخصية أنات إلى رمز كوني معقّد: الأرض، الإلهة، الأم، والأسطورة الشرقية. غير أن هذا الرمز يعتريه الانكسار، فيتبدد في الفراغ الميتافيزيقي وتسيطر عليه علامات الجفاف والعقم، تعبيراً عن أزمة الهوية وضياع المعنى في الحاضر الثقافي والفردي.

أما الفصل الأخير مع «عندما يبتعد»، فينحت الحاج صالح من الغياب مقاماً شعرياً فريداً، يضفي على الصمت والاقتصاد اللغوي وظيفة بلاغية وأخلاقية. تصبح الأشياء اليومية البسيطة إشارات محمّلة بدلالات النفي والارتياب، ويغدو الغياب ذاته أفقاً للبحث عن حقيقة لا تُقال وكلمة لم تُنهِ قولها بعد.

يتميّز أسلوب الحاج صالح بالرصانة والمعرفة الكثيفة، دون ادعاء أو تكلّف. يمزج بين أدوات الناقد الأكاديمي وذائقة القارئ الشغوف، ويستحضر في مقارباته نصوصاً من درويش نفسه وأصواتاً نقدية أخرى، ليقدّم قراءة متعددة المستويات تجمع بين التفسير والتساؤل والتأمل. إن قيمة الكتاب لا تقتصر على تفسير شعر محمود درويش، بل تتعداه إلى مساءلة جدوى الشعر والمعنى ذاته في زمن تآكلت فيه البطولة وتبدّلت فيه رموز الجماعة. هو عمل نقديّ يؤرخ لجماليات الفقد وسلطة الغياب، ويعيد طرح الأسئلة الصامتة التي تشكل جوهر التجربة الدرويشية.

في المحصلة، يُعدّ «محمود درويش، بين الزعتر والصبّار» نصاً نقدياً متماسكاً، لا يكتفي بالإحاطة بتجربة درويش فحسب، بل يصغي إلى صمت القصيدة، ويعيد رسم خرائطها الرمزية، جاعلاً من القراءة رحلة جديدة في أعماق الذات الفلسطينية والوجودية، ومرافعة أدبية عن الشعر حين يكون شهادة على الزمن ومرثية للمعنى.

المصدر: صحيفة القدس العربي