آخر الأخبار

spot_img

المكاشفة والاستجابة، حينما تصنعان لحظة تحول فارقة (نماذج تاريخية

صحيفة الثوري- كتابات:

د. ياسين سعيد نعمان

مكاشفة الشعوب، التي لم تتعود على المكاشفة من قبل قياداتها، تُعد عملية صعبة البداية، وغالبًا ما تصاحبها صدمات، وأسئلة، وردود أفعال متفاوِتة طابعها العام الاستنكار والتردد في استيعاب الحقيقة، أو فهمها بمنطق عدم الثقة الذي تُكرّسه عهود من المراوغات التي تحلق حول الحقيقة ولا تكشفها للناس، وهو ما يمكن تعريفه بالاستجابة.

المكاشفة صعبة بسبب بطء الاستجابة من قبل الشعوب، لكنها ما إن تبدأ فإنها لا تلبث أن تفتح جسورًا بين عقل الحاكم الذي كان مغلقًا على نخبة الحكم فقط، وبين عقل عموم الشعب الذي فقد الثقة في ما يقوله الحاكم وراح يبحث عن الحقيقة في الإشاعة.

تجارب الأمم كثيرة في هذه المسألة، حيث كانت لحظات المكاشفة بمثابة لحظات تحول تاريخية في حياتها:

عندما تولى تشرشل رئاسة الوزراء عام ١٩٤٠، كانت بريطانيا في وضع كارثي، فألقى خطابًا تاريخيًا قال فيه: “لا أعدكم بشيء سوى الدم والتعب والدموع والعرق”. ورغم قساوة الخطاب فقد التفت حوله الأمة البريطانية، واعتُبر صدقه وشجاعته عاملًا أساسيًا في رفع الروح المعنوية للشعب.

في سنغافورة في الستينيات من القرن الماضي، كان البلد فقيرًا، وينقسم عرقيًا، ولا يملك موارد. وفي خطاب شهير لرئيسه آنذاك “لي كوان يو” قال: “هذه لحظة مؤلمة، لا يوجد لدينا مخزون من الطعام إلا لأيام قليلة، لكن علينا أن نبني مستقبلنا بأيدينا”. بعدها كسب ثقة الشعب، وقاد سنغافورة نحو واحدة من أسرع التحولات الاقتصادية.

فرانكلين روزفلت، الرئيس الأمريكي في الكساد الكبير عام ١٩٣٣، وكانت البلاد تغرق في الكساد العظيم، قال في خطاب التنصيب: “الشيء الوحيد الذي يجب أن نخاف منه هو الخوف”. أثارت العبارة عاصفة من إدراك الأمة أنه لا خيار سوى اقتحام الصعب.

نيلسون مانديلا رفض تغذية مشاعر الانتقام التي كانت تغلي عند المضطهَدين السود، قاوم النزعة العارمة بالانتقام، وصارح الشعب بأن بناء الوطن يتطلب التسامح وليس الثأر والكراهية.

إمبراطور اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت اليابان مهزومة ومدمرة بالكامل، خرج يخاطب شعبه لأول مرة بصوته الحقيقي (وكانوا يظنونه كائنًا مقدسًا لا يتكلم).. أعلن الاستسلام، وقال: “إن الحرب لم تَسِرْ كما كنا نتمنى”، احترم الناس جرأته، وفتح الخطاب الباب لإعادة بناء اليابان.

في ألمانيا، صارح ويلي برانت مستشار ألمانيا شعبه في أكثر من مناسبة بأن بلاده لن تستطيع تجاهل مسؤوليتها عما فعله النظام النازي، أعاد هذا الموقف الثقة في ألمانيا كدولة حديثة تتصالح مع ماضيها.

كوريا الجنوبية، خاطب زعيمها كيم داي يونغ الشعب أواخر التسعينيات: “نحن في لحظة حرجة، والحقيقة أن الدولة مفلسة”. لم يُحبَط الشعب، لكنه حرك الديناميات النائمة والمعطلة فيه، وحقق نهوضًا شاملًا.

جمال عبد الناصر بعد نكسة ١٩٦٧، خاطب الشعب بعد اعترافه بالهزيمة، وتحمّل المسؤولية كاملة، وأدرك أن الخطاب الثوري الذي كان يوجهه للشعب قد خانته إدارة السلطة يومذاك، وقال بشجاعة: “لقد قررت التنحي تمامًا ونهائيًا عن أي منصب رسمي”. كان الاعتراف رغم قسوته دليلًا على تحمّل المسؤولية، وولد تعاطفًا شعبيًا واسعًا كان له أثر كبير في استيعاب الهزيمة، واستعادة عجلة البناء.

أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، وفي أهم لحظة افتراق بين السماء وإدارة شؤون الأرض حينما بلغ الناس وفاة النبي (صلعم)، وما أصابهم من هلع وحيرة وتردد، خطب في الناس قائلًا: “من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”. كان لهذه العبارة وقع عظيم عند الناس أعادهم إلى رشدهم وتوازنهم في أهم لحظات الانكسار.

وهناك أمثلة كثيرة غيرها من التاريخ السياسي للمكاشفة، وكيف أنها تحولت إلى قوة لاستعادة المبادرة وتحقيق الانتصارات.

ووفقًا لما تقوله الوقائع، فإن الشعوب التي لم تتعود المكاشفة من قادتها تحتاج إلى وقت طويل لتستجيب لها حين تأتي، وتنخرط، من ثم، في عملية إعادة بناء العلاقة بين الخطاب السياسي وحراك الواقع.

على اليمنيين أن يشجعوا خطاب المكاشفة مهما كان قاسيًا، ويسبروا غور مضامينه لمعرفة ما يحيط بمعركتهم من مخاطر وما تتطلبه من مواقف، لا من تضحيات فقط.

ذلك هو الطريق الذي سلكته الشعوب والأمم لخلق لحظة التحول التاريخية.