“صحيفة الثوري” – كتابات:
سنية الحسيني – أوراق فلسطينية
• مقدمة:
تتصاعد حرب إسرائيل ضد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة “الأونروا” داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة بوتيرة متسارعة، خصوصاً بعد هجوم السابع من أكتوبر عام 2023، وفي ظل الحكومة الأشد يمينية وتطرفاً في تاريخ إسرائيل، بقيادة رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، والتي وصلت إلى السلطة مطلع ذلك العام، وفي ظل تصريحات متطرفة تدعو للتهجير من غزة والضم في الضفة الغربية، وسياسات وصلت حد اتهام تلك الحكومة بشن حرب إبادة جماعية في قطاع غزة، وتوسع استيطاني واعتداءات للمستوطنين في الضفة الغربية تعد الأشد شراسة، مقارنة بما قبل. بعد هجمات السابع من أكتوبر، اتهمت إسرائيل عدداً من موظفي الأونروا بالمشاركة في تلك الهجمات، في محاولة لتشوية صورة الوكالة وسمعتها، واستهدفت خلال الحرب على غزة مقراتها وموظفيها، وعطلت قدرتها على ممارسة مهامها في تلك الظروف العصيبة. بعد ظهور براءة الوكالة، في أعقاب الإعلان عن النتائج التي توصلت اليها لجنة التحقيق المحايدة التي تأسست للنظر في ادعاءات إسرائيل السابقة ضد الأونروا، بدأت إسرائيل مساراً تشريعياً في الكنيست لسن قوانين تجرم الأونروا والتعامل معها، وتلغي الإتفاقية التي تنظم عملها في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وبعد إقرار تلك التشريعات، أوقفت إسرائيل عمل الأونروا في القدس، وأبلغتها بعدم ممارسة أعمالها في مخيمات الضفة الغربية أيضاً، ويتزامن ذلك مع هجمات إسرائيلية مكثفة ومستمرة منذ أكثر من شهر، على مخيمات الضفة الغربية في شمال فلسطين. وأدى ذلك لتهجير أكثر من 40 ألف فلسطيني منها، بالإضافة لتدمير كبير للبنية التحتية لتلك المخيمات، وهددت إسرائيل بعدم الخروج منها خلال العام الجاري، وشددت على نواياها بتوسيع تلك الهجمات على مخيمات أخرى.
تتهم إسرائيل الأونروا بأنها تديم قضية اللاجئين بدل أن تساهم في حلها، وبأنها تروج للعنف في مناهجها الدراسية. كما أنها لا تقبل بتعريف الأونروا للاجئ الفلسطيني، وتفضل أن يكون ذلك التعريف ضمن نطاق التعريف العام للاجئ الذي وضعته مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، وبالتالي تشكك إسرائيل بأعداد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى الأونروا. تفترض الدراسة أن إسرائيل بدأت بمحاربة الأونروا ورفض وجودها بعد توقيع إتفاق أوسلو في العام 1993، لتعارض أهدافها ومهامها مع رؤية إسرائيل لحل قضية اللاجئين الفلسطينيين بشكل خاص وحل القضية الفلسطينية بشكل عام. وتعتبر قضية اللاجئين إحدى قضايا الحل النهائي، التي تأجل النظر فيها خمس سنوات بعد توقيع إتفاق أوسلو، ولم يتم التفاوض حولها أو حول القضايا الأخرى بعد ذلك، رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود. وانطلاقاً من تلك الفرضية يدور السؤال الرئيس للدراسة حول متى ولماذا بدأت إسرائيل بمحاربة وجود الأونروا واستمرار عملها؟ وتحاول الدراسة الاجابة على عدد من الأسئلة الفرعية مثل لماذا قبلت إسرائيل قبل توقيع إتفاق أوسلو بوجود الأونروا وعملها في نطاق الأراضي الفلسطينية التي سيطرت عليها، في الضفة الغربية، بما فيها القدس، وقطاع غزة بعد احتلالها عام 1967؟ وما هي الأسباب التي وقفت وراء تغير موقف إسرائيل تجاه الأونروا، بعد توقيع إتفاق أوسلو؟ وما هي مظاهر هذه الحرب التي تشعلها إسرائيل ضد الأونروا في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟ وما هي فرص نجاحها في ذلك؟ وما هي نتائج وتبعات ذلك على الفلسطينيين؟ وتقسم هذه الدراسة إلى ثلاثة أقسام رئيسة، بالإضافة للمقدمة والخاتمة، يتناول القسم الأول منها الخلفية السياسية والقانونية لظهور الأونروا، ويركز القسم الثاني على تطور موقف إسرائيل تجاه الأونروا، ويتتبع القسم الثالث مظاهر تطور حرب إسرائيل ضد الأونروا.
• الخلفية السياسية والقانونية لظهور الأونروا
ترتبط نشأة الأونروا بثلاثة قرارات مهمة للأمم المتحدة، يقدم تحليل سياق صدورها وتفاصيل نصوصها بشكل مترابط، تفسيراً لأسباب ظهور الأونروا وطبيعة دورها ومهامها.
أولاً: قرار الجمعية العامة 181، الصادر في 29 نوفمبر 1947
يعرف بقرار التقسيم، لأنه قسم فلسطين لدولتين عربية ويهودية، وقد رفض الفلسطينيون ذلك القرار، الذي خصص للدولة اليهودية مساحة توازي 55.5 % من أراضي فلسطين الانتدابية كان يقطن فيها نحو (599) ألف يهودي و(438) ألف فلسطيني عربي، بينما قبل به اليهود. وتسبب ذلك القرار، أو كان مقدمة أو مدخلاً لحرب عام 1948، حيث دشنت في أعقابه العصابات الصهيونية حرباً على الفلسطينيين، بحجة الاستيلاء على الأراضي المحددة لها في قرار التقسيم. وكان يفترض بالجمعية العامة الطلب من المحكمة رأياً استشارياً قانونياً في تلك القضية الحساسة. ووضعت الجمعية العامة صيغة قرار التقسيم، بعد أن شكلت لجنة لوضع رؤيتها وصياغة فحوى القرار، حيث استرشدت اللجنة بنتائج لجنة بيل البريطانية لعام 1937. وتعرف لجنة بيل باللجنة الملكية، وجاءت للتحقيق في الاضطرابات في فلسطين بين الفلسطينيين واليهود خلال الثورة العربية الكبرى (1936- 1939)، والتي رفض نتائجها الفلسطينيون، بينما وافق اليهود على فكرة التقسيم. وتبنت قرار التقسيم 33 دولة من أصل 51 دولة تشكل مجموع الدول الأعضاء في الجمعية العامة في ذلك الوقت، وكانت الولايات المتحدة على رأس الدول التي صادقت على القرار بالإضافة إلى دول أوروبا الغربية والمجموعة السوفياتية ومعظم دول أميركا اللاتينية، بينما رفضته المجموعة العربية التي تتكون من ست دول هي السعودية واليمن والعراق وسوريا ولبنان ومصر، بالإضافة إلى اليونان وكوبا والهند، وامتنعت بريطانيا وتشيلي والصين عن التصويت. ورغم أن قرار التقسيم غير ملزم، فقرارات الجمعية العامة عبارة عن توصيات، وفق بنود ميثاق الأمم المتحدة، إلا أنه أيضاً غير قانوني، اذ لا يحق للجمعية العامة النظر والحكم في قضية من هذا النوع، خصوصاً في ظل وجود محكمة العدل الدولية، التي يعد النظر في مثل تلك القضايا جوهر وظيفتها. استكملت الجمعية العامة باصدارها قرار التقسيم، حلقة جديدة من حلقات الظلم الذي تسببت به عصبة الأمم للفلسطينيين، عندما ضمنت في ديباجة صك الانتداب البريطاني على فلسطين الإشارة إلى وعد بلفور، الأمر الذي يتناقض مع جوهر دور الدولة المنتدبة، بمساعدة السكان للوصول لمرحلة ادارة بلادهم بشكل مستقل، وبدلاً من ذلك تعهدت لليهود بانشاء وطن لهم في فلسطين، على حساب سكانها الأصليين. وعملت بريطانيا خلال سنوات انتدابها على فلسطين على تمكين اليهود وتقويض قدرة الفلسطينيين.
ثانيا: قرار الجمعية العامة 194، الصادر في 11 ديسمبر 1948
عرف بقرار العودة، وأكد على وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الفلسطينيين الراغبين في العودة إلى ديارهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون منهم عدم العودة، وعن كل مفقود أو مصاب بضرر، والتعويض عن ذلك الفقدان أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة. وينص قرار أيضاً على إنشاء لجنة توفيق تابعة للأمم المتحدة، لتسهيل إعادة اللاجئين وتوطينهم وإعادة تأهيلهم الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك دفع التعويضات. ومنح القرار لجنة التوفيق صلاحية تعيين الهيئات الفرعية واستخدام الخبراء الفنيين بما يمكنها من تأدية وظائفها والتزاماتها. وجرى قبول القرار بموافقة 35 صوت، لم يكن من بينها أصوات المجموعة العربية. وجاءت خلفية القرار في أعقاب النكبة عام 1948 وتهجير حوالي 700 ألف فلسطيني، على يد المنظمات الارهابية الصهيونية، والذي يمثل في حينه نصف الشعب الفلسطيني، وتدمير البنى الإجتماعية والإقتصادية للشعب الفلسطيني. وجاء رد فعل إسرائيل على القرار بإقرار أنظمة الطوارئ المتعلقة بممتلكات الغائبين، التي حولت اللاجئين الفلسطينيين إلى غائبين، لمصادرة ممتلكاتهم. وتكشف وثائق الأرشيف الصهيوني اجماع القيادة الصهيونية على فكرة الترحيل السكاني منذ منتصف ثلاثينات القرن الماضي، في أعقاب نشر توصيات لجنة بيل، فأكد بن غوريون عام 1938 تأييده لـ “النقل القسري السكاني” من المناطق التي سوف تقام عليها الدولة اليهودية. ونفذت الحركة الصهيونية ذلك بالفعل، ضمن عدد من المخططات مثل الخطة (جيمل) التي تم اعدادها في مايو 1946، وبدأ تنفيذها من قبل الهاجاناه فور اعتماد الأمم المتحدة لقرار التقسيم، والخطة (دالت) التي استهدفت السيطرة على المناطق التي خصصتها خطة التقسيم الدولية لإقامة الدولة اليهودية عليها وإخلاءها من الفلسطينيين قبل موعد انتهاء الانتداب البريطاني. وعند انتهاء الانتداب البريطاني والإعلان عن قيام دولة إسرائيل في 15 مايو 1948 شكلت الحكومة الإسرائيلية “لجنة الترحيل”، لمنع الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم، من خلال “إحداث أكبر قدر ممكن من الدمار في القرى أثناء العمليات العسكرية. في غياب موقف حازم وآلية دولية فعالة لردع إسرائيل، كررت الحكومة الاسرائيلية ذلك عندما طردت أكثر من 400 ألف فلسطيني من الضفة وغزة، خلال وبعد احتلالها لما تبقى من أرض فلسطين في العام 1967، ومنعهم من العودة، وشكلوا في حينه حوالي 30 في المائة من مجموع السكان في الضفة الغربية وقطاع غزة. وأعدّت الحكومة الاسرائيلية ما بين الحروب خططاً لعمليات الطرد الممنهجة، فاستمرت في الضفة الغربية حتى عام 1961، وفي قطاع غزة حتى عام 1972. وفي صيف عام 1973، خلال مقارنة له بين نتائج نكبة 1948 ونتائج حرب 1967، إعترف موشي دايان بأن: “نتيجة الترانسفير في سنة 1948 تحول نحو ٨٠ في المائة من العرب الذين كانوا يقيمون في المناطق التي سيطرت عليها إسرائيل إلى لاجئين أما نتيجة حرب حزيران 1967 فقد حولت 20 في المائة من سكان الضفة الغربية إلى لاجئين.
ثالثاً: قرار الجمعية العامة 273، الصادر في 11 مايو 1949
وهو قرار القبول بإسرائيل عضواً كامل العضوية في الأمم المتحدة، بعد توصية مجلس الأمن، الذي اعتبرها دولة محبة للسلام وقادرة وعازمة على تنفيذ التزامات الميثاق وفق نظام القبول، إلا أن ذلك القبول جاء مشروطاً باحترام قراري الجمعية العامة 181 و194، حيث ذكر بالقرارين وبالتصريحات وبالإيضاحات التي صدرت عن ممثل حكومة إسرائيل أمام اللجنة السياسية الخاصة، فيما يتعلق بتطبيقهما، وهو ما لم تلتزم إسرائيل به ابداً. وجاء القرار بعد نجاح الجماعات الصهيونية بالاستيلاء على معظم أرض فلسطين، بما تجاوز ما حدده قرار التقسيم، وارتكاب المجازر والتهجير لأكثر من نصف الفلسطينيين. ووافقت 37 دولة على قبول العضوية، على رأسها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وكتلة الدول الغربية والشرقية ومعظم دول أمريكا اللاتينية، وهي تقريبا نفس المجموعة التي أقرت قرار التقسيم، وانضمت اليها أيضا شيلي والصين، بينما كان من بين الدول التي رفضت التصويت لصالح القرار، بالإضافة للمجموعة العربية الهند.
رابعاً: قرار الجمعية العامة 302، الصادر في 8 ديسمبر 1949
يمثل قرار تشكيل الأونروا، كهيئة فرعية، ومنظمة إنسانية، لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، عقب تهجيرهم وتجريدهم من ممتلكاتهم في العام 1948. جاءت خلفية ظهور الأونروا، بعد فشل حل مشكلة اللاجئين في مؤتمر لوزان، وبناءً على توصية الوسيط الدولي الكونت فولك برنادوت. وأنشأت الجمعية العامة، بموجب قرار الجمعية العامة رقم 194، لجنة للتوفيق بشأن فلسطين، بهدف تسهيل عودة اللاجئين، واعادة تأهيلهم الاقتصادي والاجتماعي، ودفع التعويضات لهم. وقررت لجنة التوفيق استرشاداً بالفقرة 12 من القرار 194 تشكيل البعثة الإقتصادية للدرس. ورفعت البعثة الاقتصادية، والتي عرفت باسم لجنة كلاب، نسبة لرئيسها جوردن كلاب، تقريرها، وفق رؤية وضعتها وزارة الخارجية الأميركية تقوم على دمج اللاجئين في الحياة السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط. وخلص تقرير البعثة الاقتصادية إلى ضرورة تأمين عمل للاجئين بدلاً من اغاثتهم، بالاتفاق مع الدول العربية المستضيفة، من خلال تنفيذ برنامج تنمية اقتصادية بواسطة برنامج أشغال، مع الإبقاء على الغوث الضروري، وأوصت اللجنة في تقريرها بانشاء وكالة تعنى بإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين وتســتمد الأونروا تفويضها ومرجعيتها وشرعيتها وهيكليتها الإدارية والرقابية من قرارات الجمعية العامة، الأمر الذي وفّر لها الحصانة والحماية. في حين تأتي ميزانيتها من تبرعات الدول الأعضــاء الطوعية المباشرة لها. يتجدد نطاق عملها الزمني كل ثلاث أو خمس سنوات بشكل روتيني على أساس أنها كيان مؤقت، وكان آخرها لمدة ثلاث سنوات أخرى حتى 30 يونيو 2026.
وتُذكر ديباجة القرار 302 بأحكام الفقرة 11 من القرار 194، والتي تشير إلى عودة وتعويض اللاجئين الفلسطينيين، كما أكدت الفقرة 5 من القرار 302 على ضرورة الاستمرار بإغاثة اللاجئين الفلسطينيين بدون الإجحاف بالفقرة 11 من القرار 194. وبذلك ولدت الأونروا من رحم القرار 194. وتؤكد الأمم المتحدة ســنويًّا منذ العام 1949 على حق العودة والتعويــض، وعلى القرار 194 والقرار 302. وأكدت العديد من قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن على ضرورة اســتمرار قيام الأونروا بوظائفها حتى تنفيذ القرارات الخاصة بعودة اللاجئين الفلســطينيين وتعويضهم، بما يشمل مواصلة تجديد تفويض الأونروا ووفاء الدول المانحة بالتزاماتها المالية. وأكــد قرار الجمعية العامة رقم 393 على أنه لا يمكن إنهاء الإغاثة المباشرة عــى النحو المنصوص عليه في القرار 302 إلا عندما يتحقق السلام والاستقرار في المنطقة وعودة اللاجئين.
بدأت الأونروا عملياتها في الأول من مايو 1950، وقدمت خدماتها لحوالي 750 ألف لاجئ فلسطيني، ووصل عددهم اليوم إلى حوالي خمسة ملايين وتسع مائة ألف لاجئ. وتحدد نطاق عملياتها ضمن خمس مناطق هي: الأردن، لبنان، سوريا، الضفة الغربية، التي تشمل القدس الشرقية، وغزة. وتوسع نطاق ومجال عمليات الوكالة بعد ذلك في أعقاب حرب عام 1967 وما بعدها، فشملت عملياتها اللاجئين الفلسطينيين في مصر، بعد صدور القرارين 2252 و 2341. وتقدم الأونروا خدماتها في مجالات التعليم الأساسي والرعاية الصحية الأولية ورعاية الصحة العقلية والإغاثة والخدمات الاجتماعية والقروض الصغيرة والمساعدة الطارئة في حالات النزاع المسلح.
تطورت مهام الوكالة بسبب تبدل الظروف، فتحددت مهامها في الفقرة 7 من القرار 302 بتنفيذ برامج اغاثة والاستعداد لوقت لا تتوافر فيه المساعدات. فأوكلت الجمعية العامة للأونروا في البداية مهمة مزدوجة، تحل من خلالها مكان الصليب الأحمر ومتابعة برنامج تشغيل اللاجئين، بشكل مؤقت، وأكد التقرير السنوي للأونروا للعام 1950-1951 على أنه: “تم انشاء الأونروا من حيث المبدأ من أجل تحويل برنامج الاغاثة إلى برنامج ديناميكي يتضمن مشاريع أشغال وتشغيل”. لم ينجح مشروع التشغيل في الدول المضيفة، واتهمت الأونروا بمحاولته تحقيق التوطين، واشترطت تلك الدول ضرورة ربط أي مشروع للأونروا في بلدانهم بتطبيق القرار 194. وضع برنامج لتأسيس المشاريع في العام 1951، وجاء برنامج التعليم كمشروع تكميلي لعملية التأهيل الاقتصادي ومشاريع الدمج، وأكد التقرير الخاص للمفوض العام واللجنة الاستشارية للأونروا الصادر نهاية العام 1951، أنه جرى التركيز على خطة لمدة 3 سنوات تقوم على مشاريع الدمج، وتحويل مهمة الإغاثة إلى الدول المضيفة، وإلغاء المخيمات والاعتماد على الحصص الغذائية. واعتمدت الجمعية العامة خطة الدمج في العام 1952، وخصصت لذلك ميزانية كبيرة، مقابل ميزانية محدودة للإغاثة، ووفرت فرص عمل لأكثر من 150 ألف لاجئ فلسطيني، لتحقيق الاكتفاء الذاتي. لم ينجح ذلك المخطط أيضاً، فحث السكرتير العام للأمم المتحدة في العام 1959 على ضرورة بذل مزيد من الجهد لدمج اللاجئين الفلسطينيين في الحياة الاقتصادية للمنطقة، وشدد على ضرورة التغلب على الصعوبات السياسية. ورغم ذلك لم يتغير نهج الأونروا وبقيت تركز على استراتيجة الدمج، فاقترح الامين العام داغ همرشولد في ذات العام توسيع برنامج تأهيل اللاجئين وتعزيز قدراتهم على إعالة أنفسهم، وتوطينهم في الأماكن التي يتواجدون فيها. ركزت مهتمة الوكالة طوال عقد الخمسينات من القرن الماضي على الدمج بدل الإغاثة، في ظل عدم وجود بوادر لحل الأزمة السياسية، وكان ذلك من خلال توفير مشاريع التشغيل وتأسيس المشاريع الصغيرة والتعليم المهني.
في ظل اخفاق الأونروا في مهمتها بدمج اللاجئين في مناطق اللجوء، حوّلت مهمتها أواخر الخمسينات من القرن الماضي نحو الإدماج الفردي، عبر التعليم الأساسي والتدريب المهني، الذي لاقى قبولاً من قبل اللاجئين الفلسطينيين. وبعد أن كان التعليم نشاطاً إغاثياً ثانوياً، بات له النصيب الأكبر في موازنة الوكالة، ويعمل فيه ثلثا موظفيها. وحققت تلك السياسة نتائج ملحوظة، فقفزت النسبة المئوية للاجئين الحاصلين على التعليم الرسمي من 27 في المئة عام 1951 إلى 100 في المئة منذ الثمانينات. وفي غضون بضعة عقود، تحوّل السكان المهمَّشون اقتصادياً لقوةَ عمل تلعب دوراً مهماً في إدارة عملية التنمية في منطقة الشرق الأوسط. وجاء مؤتمر مدريد مطلع التسعينات من القرن الماضي ليعدل وظيفة الأونروا من إغاثة وتشغيل إلى عمل تنمية اجتماعية عبر توفير البنية التحتية، خصوصًا في منطقة الضفة الغربية وقطاع غزة، فأعيد تجديد البنية التحتية في المخيمات، في تطور نوعي جديد. وذكرت الأونروا في تقرير صدر عنها في العام 2008 أن مهمتها مساعدة اللاجئين الفلسطينيين في تحقيق كامل طاقاتهم في التنمية البشرية تحت الظروف الصعبة التي يعيشون فيها في مناطق اللجوء. وتبنت الأونروا في السنوات الأولى بعد توقيع اتفاق أوسلو برنامج تطبيق السلام ومشروع موائمة الخدمات بافتراض التقدم في عملية السلام للوصول للحل النهائي.
في ظل ظلم تاريخي لحق بالشعب الفلسطيني منذ أكثر من سبعة عقود لم يتم تسويته بعد، يعيش نصف الشعب الفلسطيني خارج وطنه، بينما يعيش النصف الثاني داخله تحت نير احتلال عسكري استيطاني إحلالي طويل. ومنذ العام 1950 وحتى اليوم تواصل الأونروا تقديم خدماتها، من خلال أكثر من ثلاثين ألف موظف، يقدمون خدماتهم لحوالي ستة ملايين لاجئ فلسطيني. ويدرس أكثر من نصف مليون طالب في مدراس الوكالة، بينما تستقبل عياداتها أكثر من أربعة ملايين مريض سنوياً، بالإضافة إلى مساعداتها الاجتماعية لآلاف الأسر، وخدماتها الأخرى. وينتشر اللاجئون الفلسطينيون في 58 مخيم مقامة في أربع دول عربية، هي فلسطين، والأردن، ولبنان وسوريا. ويعيش أكثر من مليونين وربع مليون لاجئ فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، منهم حوالي مليون و400 ألف في غزة، بما يشكل تقريباً ثلثي سكان القطاع، وحوالي 800 ألف في الضفة الغربية، ما يشمل حوالي ربع سكانها، منهم حوالي 180 ألف في القدس وحدها. ويعيش اللاجئون الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة في 27 مخيم، منها 19 مخيماً في الضفة، و8 في قطاع غزة. كما يقطن أيضاً أكثر من مليونين وربع المليون لاجئ فلسطيني في الأردن، موزعين على عشرة مخيمات للاجئين. وهناك أكثر من مليون لاجئ فلسطيني في لبنان وسوريا، حيث يعيش أكثر من نصف مليون لاجئ فلسطيني في لبنان، ينتشرون في 12 مخيماً للاجئين ومثلهم في سوريا، موزعين على تسعة مخيمات، في ظل ظروف شديدة التعقيد. وتنفق الوكالة ميزانيتها مقسمة على التعليم بنسبة 58 في المائة والصحة بنسبة 15 في المائة وخدمات الدعم الأخرى بنسبة 13 في المائة والغوث والخدمات الاجتماعية بنسبة 6 في المائة وتحسين البنية التحتية للمخيمات بنسبة 4 في المائة.
• تبدل موقف إسرائيل تجاه الأونروا
بدأت الأونروا عملها بشكل رســمي في العام 1950 في خمس دول، بما فيها دولة الاحتلال الإسرائيلي التي عملت فيها خلال العامين 1950 و1952، لمساعدة حوالي 17 ألف لاجئ فلسطيني، بالإضافة إلى مصر والأردن ولبنان وسوريا. ونسقت الأونروا عملها في الضفة الغربية وقطاع غزة مع مصر والأردن، قبل احتلال تلك الأرضي من قبل إسرائيل في العام 1967. بعد احتلال الضفة الغربيــة وقطاع غزة، قبلت الحكومة الإسرائيلية باستمرار وجود الأونروا في مساعدة لاجئي فلسطين في تلك الأراضي، فأكدت وزراة الخارجية الإسرائيلية في رسالة أرسلت لمفوضية الاونروا على تعاون سلطات الاحتلال مع الوكالة في تلك المناطق، وجرى التوقيع على رسائل متبادلة بين إسرائيل والأونروا تعرف باتفاق (كوماي- مشيلمور)، وشــكلت معاهدة مؤقتة، التزمت من خلالها إسرائيل بتقديم امتيازات وحصانات للوكالة تضمن حماية وأمن موظفيها ومقراتها وممتلكاتها، والسماح بحرية حركة مركباتها في مناطق عملها. واعتبرت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بعد عام 1967 أن بقاء عمل الأونــروا في الضفة الغربية وقطاع غزة أمر ضروري لتعزيز الاســتقرار فيها. ويعفي ذلك الوضع إسرائيل من تحمل المســؤوليات المدنية التي تقع عــلى عاتقها بوصفها قوة قائمة بالاحتلال. بعد توقيع اتفاق أوسلو نقل المقر الرئيس للأونروا من فيينا إلى قطاع غزة، وجرى تبادل للرسائل بين المنظمة والأونروا في منتصف العام 1994، لتمكين الأونروا من مواصلة عملياتها في الأراضي الفلسطينية، لكن دون الغاء لاتفاقية (كوماي- مشيلمور) الموقعة بسبب الواقع القانوني لتلك الأراضي.
كان أحد أهم أسباب رفض الفلسطينيين والعرب لوجود الأونروا اتهامها بالعمل على توطين اللاجئين الفلسطينيين ومحاولة دمجهم في مناطق الإيواء، وهو ما اتضح بالفعل من خلال برامج العمل التي تبنتها الوكالة بعد ظهورها، وهو ذات السبب الذي فسر قبول إسرائيل بوجودها، اعتقاداً منها بأن ذلك سيخلصها من عبء هذه القضية دون دفع أي ثمن. كما قبلت الدول الغربية بوجود الوكالة ودعمت استمرار عملها، في ظل عدم قدرتها على حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين بتطبيق قرار الجمعية العامة رقم 194، الذي يشير إلى حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم وتعويضهم. وكان لتمسك الفلسطينيين بحق العودة، والذي تجسد ببقاء المخيم الفلسطيني في جميع أمكان تواجده، ورفض الدول العربية المستضيفة للاجئين الفلسطينيين ومخيماتهم دمجهم فيها وتذويب هويتهم، أكبر الأثر في عدم نجاح الأونروا بتحقيق فكرة الدمج، وهو ما جعل مهمتها تقتصر على مساعدة اللاجئين فقط عبر الإغاثة والتشغيل والمشاريع الصغيرة والتعليم والتنمية، ضمن مقاربة الفلسطينيين بالصمود، وليس ضمن مقاربة الوكالة القائمة على الدمج، وهو ما جعل إسرائيل تتهم الأونروا بعد توقيع اتفاق أوسلو بتخليد قضية اللاجئين. فاعتبر بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلي في العام 2017 أن الأونروا أبقت على مشكلة اللاجئين بدل حلها، ودعا لحلها.
في عهد أوسلو، وفي ظل عدم التقدم في عملية السلام، ووجود عدد من قضايا الحل النهائي عالقة دون بت، وعلى رأسها ملف الاستيطان وقضية اللاجئين، بدأ الموقف الإسرائيلي يتبلور حول قضية اللاجئين، وتجاه الأونروا، التي فشلت في تقويضها عبر تحقيق الدمج. فبدأت إسرائيل في تحديد موقفها من قضية اللاجئين، والعمل على تقويض وجود الأونروا كرمز تاريخي وسياسي وقانوني للقضية، وتعمدت التشكك في عدد اللاجئيين الفلسطينيين التي حددتها الأونروا، رغم أن ذلك العدد أقل من العدد الحقيقي لإعتبارات عدة. وتعد “وثيقة يوسي بيلين- أبو مازن” التي وقعت في سويسرا في نهاية شهر أكتوبر عام 1995، من بين أول الشواهد التي أكدت على تبدل موقف إسرائيل تجاه الأونروا، فجاء في البند الرابع منها، بأن “تَحِل هيئة دولية جديدة محل الأونروا لتعمل على إعادة تأهيل وتأمين استيعاب اللاجئين في دول وأماكن إقامتهم”، وفي وقت لاحق، دعا الوزير الإسرائيلي سلفان شالوم في تصريح له يوم 2005/11/07 لنقل صلاحيات الأونروا بعد حلها إلى السلطة الفلسطينية، كما دعا يوسي بيلين في 2008/06/23 لـحل الوكالة واستبدالها بالمفوضية العليا لشؤون اللاجئين وذكرت صحيفة “إسرائيل اليوم” في 2011/12/06 “أن إسرائيل تُحرِّض على إغلاق وكالة الأونروا بحجة أنها تُشكّل عقبة أمام أي اتفاق مستقبلي مع الفلسطينيين. وتعتقد إسرائيل أنه بإمكانها إنهاء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين من خلال حل الأونروا وربط تلك المشكلة بمفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة والتعامل معها كملف إنساني بحت، وبذلك اعتبرت أن عدد اللاجئين الفلســطينيين يشكل أقل من 50 ألف لاجئ وفقاً لذلك التوجه.
منذ العام 1949 استند موقف إسرائيل من قضية اللاجئين على عدم الاعتراف بالمسؤولية عن تهجير اللاجئين، وعدم قبول عودتهم إلى بيوتهم وأراضيهم. وأرسلت الحكومة الإسرائيلية رسالة إلى هيئة التوافق الأممية،
في 2 أغسطس 1949، أرفقتها بإحاطة وزير خارجيتها، موشيه شاريت تدعو لحل قضية اللاجئين الفلسطينيين، من خلال توطينهم في دول أخرى، وليس من خلال عودتهم إلى إسرائيل. لم يتغير موقف دولة الاحتلال من قضية اللاجئين الفلسطينيين، منذ حدوث النكبة عام 1948 حتى اليوم، واعتبرت إحدى قضايا الحل النهائي في اتفاق أوسلو، والذي أرجأ البت فيها ليكون عبر التفاوض خلال السنوات الخمسة اللاحقة للاتفاق، وهو الأمر الذي لم يحصل. وترفض إسرائيل الإقرار بجرائمها تجاه اللاجئين الفلسطينيين، سواء كان ذلك بتهجيرهم أو طردهم من ديارهم أو تدمير قراهم أو سلب ممتلكاتهم من أراض ومنازل ومقتنيات. واستعدت دولة الاحتلال، خلال جولات تفاوضية متعددة مع الفلسطينيين، لإعادة بضعة آلاف من الفلسطينيين المهجرين، لأسباب إنسانية، وبشكل متدرج زمانياً، وفق سياسة “لم الشمل”. كما تطرح حكومة الاحتلال عند التطرق لقضية تعويض اللاجئين الفلسطينيين قضية تعويض اليهود الذين تدعي أنهم طردوا من الدول العربية خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وتقترح وجود صندوق دولي ينشأ لغرض التعويضات عموماً، مع تأكيدها على عدم تحملها عبء التعويض. وتُحمل إسرائيل الدول العربية مسؤولية التسبب بمشكلة اللاجئين الفلسطينيين لتدخلهم للدفاع عن فلسطين.
وتشكك إسرائيل في أعداد اللاجئين الفلسطينيين سواء في العام 1948 أو في العام 1967، التي أعلنها الفلسطينيون أو الأونروا، كما تعارض تعريف القرار 194 والأونروا للاجئ الفلسطيني، وترى أنه يختلف عن تعريف اللاجئ في الوثائق الدولية الأخرى. وتعتبر الأونروا أن اللاجئين الفلســطينيين هم “أولئك الأشــخاص الذين كانوا يقيمون في فلســطين خلال الفترة ما بين حزيران / يونيو 1946 حتــى أيار / مايو 1948، الذين فقدوا بيوتهم ومورد رزقهــم نتيجة حرب 1948”. في 4 يوليو 1967، عُدل التعريف وتوسع كي يشمل الأشخاص الذين تضرروا من حرب عام 1967، كما شمل التعريف جميع أبناء لاجئي فلسطين الأصليين والمنحدرين من أصلابهم. في حين يعرف اللاجئين لدى المفوضية الســامية للأمم المتحدة لشــؤون اللاجئين أنهم أولئك الذين أُجبروا على الفرار من بلدانهم، ويتمحور التعريف حول مبدأ منع الإعادة القسرية إلى بلد يمكن أن يواجه فيه اللاجئ تهديداً لحياته أو حريته، وتسقط صفة اللاجئ وفق تعريف المفوضية عند اكتساب اللاجئ جنسية جديدة. ولا ينطبق تعريف المفوضية على الأشخاص الذين يتمتعون بحماية أو مساعدة هيئات أو وكالات تابعة للأمم المتحدة. ولا ينطبق تعريف المفوضية على لاجئي فلسطين الذين يستطيعون تسجيل أنفسهم ونسلهم في سجلات الأونروا، حتى إذا انتقلوا إلى خارج نطاق عملها، أو اكتسبوا جنسية دولة أخرى، حتى التسوية النهائية لحقوقهم.
ويمكن تتبع ذلك التبدل في الموقف الإسرائيلي تجاه الأونروا وقضية اللاجئين الفلسطينيين من خلال مراجعة مواقف الولايات المتحدة الحليف الأول والداعم بقوة لإسرائيل، حيث تتقاطع المواقف والسياسات بوضوح. بدأت الإدارة الأميركية تتنصل من الإقرار بحق الفلسطينيين في العودة لديارهم، بعد توقيع اتفاق أوسلو في عهد الرئيس بيل كلنتون، فامتنعت ادارته في عامها الأول عن التصويت لصالح قرار الأمم المتحدة رقم 194 لأول مرة منذ صدوره، والذي يجري التصويت عليه سنوياً، وعندما صوتت ضده فى عامها الثاني أيضاً، أكدت أن القرار لم يعد مرجعية للحل بعد توقيع أوسلو. وقبل كلنتون بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضي الدولة الفلسطينية فقط، وليس إلى الأراضي التي هجروا منها. في تطور آخر للموقف الأميركي، دعت ادارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في خارطة الطريق التي وضعتها للفلسطينيين والاسرائيليين، على أساس أنها تقدم حلاً منطقياً ومتفق عليه لقضية اللاجئين الفلسطينيين، في ظل اعترافها بيهودية إسرائيل، وذلك لأول مرة من قبل إدارة أميركية، الأمر الذي حسم موقف الولايات المتحدة بانكار حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وهو ذات الموقف الذي تمسك به الرئيس باراك أوباما بعد ذلك، فأعاد التأكيد على يهودية دولة إسرائيل، وعلى عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى الدولة الفلسطينية وليس إلى قراهم ومدنهم التي هجروا منها. وفي تطور نوعي، تبنت إدارة الرئيس دونالد ترامب الموقف الاسرائيلي بعدم احتساب الأعداد الحقيقية للاجئين الفلسطينيين، والاكتفاء باحتساب من تبقي حياً من الذين هجروا فعلياً في عامي 1948 و1967، وانكار صفة اللاجئ عن أبنائهم وأحفادهم، الذين ولدوا في بلد اللجوء. ويتطابق ذلك مع تعريف الاحتلال للاجئ الفلسطيني، ويتناقض مع التعريف الذي تتبناه الوكالة. وفي صفقة القرن، التي اقترحتها إدارة الرئيس ترامب في ولايتها السابقة، جاء “لا عودة للاجئين الفلسطينيين، مع طرح خيارات للتوطين، ووضع قيود على عودة اللاجئين إلى دولة فلسطين المرتقبة”، كما ربطت الصفقة قضية تعويض اللاجئين الفلسطينيين بتعويض اليهود الذين خرجوا من الدول العربية للهجرة لإسرائيل، في تبنٍّ لرؤية إسرائيل، التي تواصل إنكار مسؤوليتها عن النكبة وتهجير الفلسطينيين.
وكشفت مجلة الفورين بوليسي الأميركية الواسعة الانتشار عن مساعي إدارة ترامب لإنهاء عمل الأونروا وتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين نهائياً، واغلاق ذلك الملف في أي مفاوضات محتملة قادمة. وكشفت المجلة أيضاً عن ضغوطات أميركية مارستها الإدارة على الأردن لتجريد أكثر من 2 مليون لاجئ فلسطيني فيها من وضعهم القانوني كلاجئ وتوطينهم. ونشرت صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية في 30 يوليو 2018 عن حراك في الكونجرس الأميركي يسعى لسن تشريع يعتبر أن أعداد اللاجئين الفلسطينيين فقط 40 ألف، بعد حصرهم فقط في الجيل الأول. ورغم إعلان إدارة الرئيس جو بايدن تراجعها عن السياسات التي تبنتها إدارة ترامب تجاه الفلسطينيين، إلا أن تلك الإدارة أعادت مخصصاتها المالية للأونروا ضمن شروط، عكسها إتفاق اطار، يحد من عدد اللاجئين، فحصره بـ 40 ألف لاجئ فقط، وهم من بقي على قيد الحياة من الجيل الأول للنكبة، ورفض العدد الذي حددته الاونروا، وقيد التوظيف والتعاون وتقديم الدعم على أساس محاربة “الإرهاب”، وفرض تدخلاً في محتوى المواد التعليمية في مدارس الوكالة. وفي سياسة أميركية تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين يتوقع لها ألا تختلف عن سابقاتها، وقّع الرئيس ترامب بعد توليه لمنصبه مطلع العام الجاري، أمرًا تنفيذيًا يقضي بتجميد جميع تمويل المساعدات الخارجية الأميركية لمدة 90 يومًا، بما في ذلك الأونروا.
• مظاهر تطور الحرب ضد الأونروا
بدأت حرب إسرائيل ضد الأونروا بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، فازدادت الدعوات الإسرائيلية لحل الأونروا أو دمجها في المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة أو تحويل دورها لمؤسسات أخرى، وكلها مبادرات تهدف لتقويض العنوان الذي نشأت الأونروا تحت مظلته، والهدف الذي جاءت من أجله، وعجزت الأمم المتحدة عن تحقيقه، وهو حل قضية اللاجئين الفلسطينيين سياسيا وقانونياً. وتصاعدت مضايقات سلطات الاحتلال ومظاهر تضييقها على عمل الأونروا ومؤسساتها وموظفيها. فأكد المفوض العام الدنماركي بيتر هانسن، الذي خدم ما بين عامي 1996 و2005 على تعرض موظفي الأونروا لمضايقات وتحرشات الاحتلال. واتخذت إسرائيل العديد من الوسائل لمحاربة الأونروا وشيطنتها، مستغلة عيباً بنيوياً في طبيعة تمويلها، فيعتمد معظم تمويل الأونروا، أي حوالي 93 في المائة منه، على مساعدات الدول، ويأتي معظمها من الدول الغربية الحليفة لإسرائيل، وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فشهدت حقبة أوسلو انخفاضاً تدريجياً لتمويل الأونروا من قبل الدول المانحة، ووضع شروط أميركية وأوروبية على ذلك التمويل، الأمر الذي تسبب في عدم استقرار ميزانيتها، وعدم قدرتها على وضع مشاريع مستدامة طويلة الأمد. بدأت القضايا تتفاقم في عهد الرئيس دونالد ترامب خلال ولايته الأولى، الذي تبنى نهجاً جديداً يسعى لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لغير صالح الفلسطينيين، وكان من بين إجراءاته التي اتخذها ضدهم قطع التمويل بشكل كامل عن الفلسطينيين، مع الأخذ في الاعتبار أن الولايات المتحدة هي الممول الأكبر للأونروا. وحتى عند إعادة جو بايدن الرئيس السابق للولايات المتحدة لجزء من التمويل، أخضعه لشروط. ويبدو أن الانحدار وصل ذروته بعد هجومات 7 أكتوبر، بعد سن الكنيست الإسرائيلي تشريعين ينهيا عمل الأونروا في القدس والضفة وغزة، واستهداف مقرات الأونروا وموظفيها في غزة بشكل مباشر من قبل جيش الاحتلال، وإنهاء عمل الأونروا في القدس، والهجمة الحالية على مخيمات اللاجئتين في الضفة الغربية، وإخطار الأونروا بانسحباها منها، فما هو مستقبل بقاء الأونروا في ظل التطورات الأخيرة؟
بعد أوسلو، بدأت مناشدات الأونروا تتعالى بخصوص انخفاض التمويل، ففي العام 1997، أعلن بيتر هانسن المفوض العام للأونروا عن عدم تسديد الدول المانحة التزاماتها المالية لصندوق الوكالة، وفي العام 2009، اعتبرت كارين أبو زيد المفوض العام السابق للأونروا أن الأسباب في عجز ميزانية الأونروا ترجع إلى عدم دفع الدول المانحة حصصها في ميزانية الوكالة السنوية. وبقيت الأزمة في تصاعد، خصوصا في ظل شيطنة الوكالة من قبل حكومة الاحتلال، ففي العام 2014 دعت إسرائيل عشرات الدبلوماسيين الأجانب للكنيست لإقناعهم بخطورة المناهج التعليمية التي تدرس في مدارس الوكالة، متهمة الوكالة بالتحريض ضدها، والتشجيع على العنف. وتتهم إسرائيل الوكالة بتدريس مناهج تعليمية تروج لمفهوم “الأرهاب” في مدارسها، خصوصاً في الأراضي الفلسطينية، رغم أن مدارس الوكالة تتبع المناهج التعليمية التي تدرس في البلدان المضيفة، معتبرة أن أي قضايا تعكس قضية العودة أو النضال ضد الاحتلال تعبر عن ذلك المفهوم. وأدى تقليص موازنة الأونروا التدريجي وانخفاض دعم المانحين إلى تفاقــم العجز لديها، فأعلن المفوض العام للأونروا بيير كرينبول في شهر أيار /2015 أن الأونروا تواجه أزمات مالية متراكمة لا تمكنها من الإستمرار بتقديم خدماتها الأساسية. وأوقفت إدارة ترامب الأولى من بين عقوبات أخرى الدعم الأميركي عن الأونروا، والذي شكل ثلث ميزانيتها في العام 2017. وفي العام التالي اتخذت ادارة ترامب قراراً بقطع الدعم المالي عن الوكالة كلياً. وأوقف عدد من الدول من بينها هولندا وسويسرا تمويلها للوكالة في العام 2019، الأمر الذي استدعى إعلان المفوض العام للأونروا في العام التالي عن عدم قدرة الوكالة على تسديد رواتب موظفيها. وحذر المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، في العام 2022، مجلس الأمن الدولي من خطر تفكيك الوكالة بالكامل إذا استمر تخفيض تمويلها، وفي مطلع شهر حزيران/ يونيو من العام 2023، وقبل حدوث هجوم السابع من أكتوبر، أكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الأونروا “على شفا الانهيار المالي”، وتبقى معضلة انخفاض التمويل مستمرة. ويؤثر التمويل المشروط أيضاً على أداء الوكالة فرغم إعادة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن التمويل في العام 2021 بعد انقطاع استمر ثلاث سنوات، وضع شروطا لإعادته. جاء التمويل الأمركي المشروط من خلال اتفاق “إطار العمل للتعاون2021-2022” مركزاً على مراقبة مؤسسات الأونروا، من خلال تقديمها تقارير مالية وأمنية ربع سنوية، وضمان عدم ذهاب التمويل لمساعدة أو دعم جهات تصنّفها الولايات المتحدة بـ “الأرهابية”، ومراجعة الكتب المدرسية المحلية، واتخاذ التدابير اللازمة لتصحيح أي محتوى غير مقبول لدى الإدارة. ويفرض الاتحاد الأوروبي أيضاً منذ نهايــة العام 2019 شروطاً سياسية للتمويل على المؤسســات الأهلية، ومن بينها وكالة الأونروا.
بعد هجوم السابع من أكتوبر عام 2023، وادعاء الحكومة الاسرائيلية تورط عدد من موظفي الأونروا في غزة بالمشاركة في الهجمات، تصاعدت حرب الاحتلال على الأونروا، سواء من خلال استهداف الأونروا ومقراتها وموظفيها بشكل مباشر في غزة، أو من خلال شن الكنيست تشريعات تقوض استمرار عملها في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، أو من خلال اجتياح وتفريغ مخيمات الضفة، الجارية حالياً. وتتجه الحكومة الإسرائيلية لانهاء وجود الأونروا نهائيا من الأراضي المحتلة، ويبدو أن هناك ميل أميركي غربي لانجاح ذلك. كشف موقع تايمز أوف إسرائيل وقناة 12 العبرية قبله عن تفاصيل وثيقة سرية لوزارة الخارجية الاسرائيلية، وصلت للقناة، تهدف لاستبعاد الأونروا من غزة بعد الحرب، ونقل صلاحيتها في نهاية المطاف للجنة التي ستكون مسؤولة عن إدراة القطاع بعد الحرب. أدى ذلك لتشكيل لجنة دولية مستقلة لمراقبة حيادية عمل الوكالة، وعمل تحقيق داخلي من قبل مكتب الامم المتحدة لخدمات الرقابة الداخلية، ورغم عدم اصدار قرار إدانة، وعدم تقديم إسرائيل دليلاً على إدعاءاتها بشأن تورط عدد من موظفي الأونروا في غزة في هجوم 7 أكتوبر، إلا أنها وضعت توصيات تقيد من عمل الأونروا وتتدخل في صميم عملها. ونشرت عدة مراكز أبحاث أميركية تصــورات لمرحلة ما بعد “الأونــروا”، كان من بينهــا اقتراح بإشراف اليونيســكو على مدارس الوكالة، وإشراف برنامج الغذاء العالمي على المساعدات الإنســانية، فضلا ًعن إشراف منظمــة الصحة العالمية عــى إدارة مرافق الرعاية الصحية وتولي ّالمفوضية العامة للأمم المتحدة شــؤون اللاجئين في لبنان وسوريا والأردن بحيث يتم دمجهم في البلاد التي يعيشون فيها. وينسجم ذلك مع مخططات إسرائيلية، ففي العام 2017 دعا نتنياهو لدمج الأونروا في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وظهرت تسريبات في العام 2022 حول إمكانية دمج عمل الوكالة، لتقويض استقلاليتها، وكمقدمة لتصفيتها، وذلك إما من خلال تبعيتها للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، أو بإلحاقها بالوزارات المعنية في الدول المضيفة، أو عبر إنشاء وكالة جديدة مستقلة تخضع لوكالات دولية مثل البنك الدولي. في ذات العام ونتيجة للضغوطات المالية والسياســية على الأونــروا، اضطر المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، لاقتراح الحاجة لزيادة عدد الشراكات داخل منظومة الأمم المتحدة التي يمكن لها أن تقدم خدمات نيابة عن الأونروا وتحت توجيهها، وتصب جميع تلك الاقتراحات بإلغاء الأونروا باتجاه التحايل على الاعتبار القانوني والسياسي للأونروا، والذي يرتبط مباشرة بالقرار 194، والذي يعكس حق الفلسطينيين بالعودة والتعويض.
ولعل قرار إسرائيل بالتصعيد والتوجه لسن تشريعات لانهاء عمل الأونروا في الضفة والقدس وغزة، يعتبر الخطوة الأصعب في حربها ضد الأونروا. وأرسلت وزارة الخارجية الاسرائيلية رسالة إلى رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة تعلن انسحاب إسرائيل رسميا من الاتفاقية التي وقعتها من الوكالة في العام 1967. وبدأت حكومة الاحتلال مسارها القانوني لإقصاء الوكالة وعزلها في الأراضي المحتلة منذ شهر مايو الماضي، تزامن ذلك مع اضرام مستوطنين النار في مقر الوكالة في حي الشيخ جراح في المدينة، والذي أدى لإغلاق المقر لدواعي أمنية. كما أعلنت بعد ذلك سلطة الأراضي في إسرائيل، وقبل إقرار التشريع، الاستيلاء على الأرض المقام عليها مقر الأونروا في القدس، لتحويلها إلى بؤرة استيطانية. في 28 أكتوبر الماضي أقر الكنيست مشروعي القانونين المقترحين. ويبطل القانون الأول تواجد ومهام الأونروا في المناطق الخاضعة لسيادة إسرائيل، ويوقف خدماتها التعليمية والصحية والاجتماعية لحوالي 180 ألف لاجئ فلسطيني في المدينة ومحيطها. وأعلنت إسرائيل إنهاء علاقاتها مع الأونروا وإلزامها بمغادرة القدس بحلول نهاية الشهر الأول من العام الجاري. وينص القانون الثاني على انتهاء صلاحية المعاهدة الموقعة بين إسرائيل والأونروا بعد حرب عام 1967، وقطع الاتصالات الرسمية مع الأونروا أو ممثلين عنها، واستمرار الاجراءات المتعلقة بتجريم موظفي الأونروا الضالعين بأعمال “الإرهاب”. وتشكل تداعيات القانون الثاني نتائج أكثر خطورة وتعقيداً من الأول، لأنه يمس الخدمات المقدمة لثلث سكان الضفة الغربية وثلثي مواطني قطاع غزة. وتسقط وفق ذلك التشريع جميع الامتيازات والحصانات التي تسمح بدخول موظفي الوكالة الأجانب إلى إسرائيل ومناطق السلطة الفلسطينية وحمايتهم وحصانتهم، بالإضافة لسقوط الحصانة والحماية عن مقرات الوكالة، كما سيعطل ذلك معاملات الأونروا الداخلية القانونية والبنكية والضريبية، وهو الأمر الذي يعني استحالة قدرتها على متابعة وظائفها في القدس والضفة وفي ظل الوضع الحالي في غزة، التي تقع جميعها تحت السيطرة الإسرائيلية المالية والأمنية والعسكرية والحدودية.
أوعز نتنياهو بالتطبيق الفوري لقانون حظر الوكالة، رغم الإدانات العربية والدولية الواسعة، وتقوم إسرائيل باغلاق مدارس الوكالة وطرد طلابها وكوادرها، كما حدث في اقتحامها لمدرسة ذكور القدس الأساسية في حي وادي الجوز. ووصف مكتب لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الفلسطينيين تلك التشريعات غير قانونية وتتناقض مع ميثاق الأمم المتحدة ومع معاهدة الامم المتحدة الخاصة بالحصانات والامتيازات ومع العديد من قرارات مجلس الامن والجمعية العامة، ويعكس ذلك التصرف الإسرائيلي انتهاكاً لالتزامات إسرائيل وواجباتها بصفتها قوة احتلال بموجب القانون الدولي. واعتبر المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني أن تشريعات الكنيست تتحدى قرارات الجمعية العامة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، معتبراً أن أي تغير يطرأ على تفريض الأونروا يعود فقط لاختصاص الجمعية العامة، وليس للدول بشكل منفرد.
• الخاتمة
ارتبط قرار تأسيس “الأونروا” بالقرار 194 الذي أكد على حق العودة والتعويض واستعادة الممتلكات للاجئين الفلسطينيين، الأمر الذي يعني أن الهدف من وراء تصفية الأونروا اغلاق ملف اللاجئين الفلسطينيين، والذي نصت القرارات الأممية أن نهاية دور الأونروا يرتبط مباشرة بالتوصل لحل سياسي وقانوني لقضية اللاجئين الفلسطينيين. وقد يكون من أهم نقاط ضعف الأونروا التمويل الطوعي الغربي، الذي يفترض أن يصبح بيد عربية، رغم أن الدول العربية لا تشارك في تمويله إلا بنسبة ضئيلة لا تتجاوز الـ 8 في المائة، على اعتبار أن على الغرب أن يتحمل تلك الأعباء المالية، لتسببه في المشكلة وعدم حلها. كما يمكن التصويت على جعل ميزانية الأونروا جزءاً من ميزانية الأمم المتحدة، تماما كمفوضية اللاجئين، وذلك لتحرير الأونروا من عبء الضغط الأميركي والغربي المالي. ورغم أهمية دور بقاء الأونروا في الأرضي الفلسطينية المحتلة، وهو الأمر الذي يعني وجوب مقاومة القرار الإسرائيلي في الضفة وغزة، إلا أن بقاء الأونروا أيضا في الدول المضيفة يعد أمرا جوهرياً.