صحيفة الثوري: كتابات:
أحمد عبد اللاه
من زاوية “المَخْلف الصُّعيب” فإن ما نعيشه اليوم يُعتبر أكثر تعقيداً مما أوحى به، في قصيدته الشهيرة (المغنَّاة)، أمين عام الحزب الاشتراكي اليمني ورئيس “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية” عبدالفتاح إسماعيل، الذي رحل في لحظة كانت الأكثر مأساوية في تاريخ الدولة الجنوبية.
كان فتّاح واحداً من أبرز قادة اليسار في اليمن، وأحد الرموز المؤثرة في منظومة اليسار العربي. وإن أردت أن تختلف معه، عزيزي القارئ، فهذا أمر طبيعي. الاختلاف ممكن بل ومهم، حين يكون بوعي ومسؤولية، لا مدفوعاً بإرث خصومة طواها التاريخ.
الحديث عن فتّاح، الذي قاد الحزب الاشتراكي وترك أثراً بارزاً في الذاكرة السياسية للجنوب، ليس ترفاً إنشائياً، بل هو شأن يخص المؤرخين والباحثين المنصفين. غير أن استحضاره هنا يأتي كنافذة للتذكير بـ”المخلف الصعيب” الذي نعيشه اليوم، وتعيشه أسرته، في ظل محاولات لإخراجها من مسكنها.
وإن صحّ ذلك، فإن ما يحدث أمر مؤلم للغاية. فالمسألة لا تنفصل عن سياق قانوني واجتماعي أُرسيت دعائمه منذ عقود، والتعامل معها بوصفها حالة فردية أمر لا ينبغي السكوت عنه.
أُسر القادة تستحق الرعاية والاحترام، لا لأنها تنتمي إلى نخبة سياسية بعينها، بل لأنها جزء من الذاكرة الوطنية. أولئك الرجال، الذين رحلوا ولم يخلّفوا تركة سوى تاريخهم، لا يشبهون قادة اليوم، الذين تتعدد أسماؤهم وصفاتهم، لأنهم كانوا، في جوهرهم، أحراراً من قيود التملك والإثراء.
فتّاح والآخرون من رفاقه في الحزب الاشتراكي لهم خصوم، كما لهم مؤيدون. ولا يملك الفرد ترف التقييم المطلق لهذا أو ذاك. لأن كل شيء نسبي، ولكلٍّ الآن مواقفه وانتماءاته ينطلق على أساسها في مقاربة الماضي. وهذا أمر طبيعي. لكن هناك خطوطاً ضابطة للسلوك، خاصة حين يتعلق الأمر بشخصيات عامة رحلت، وكانت يوماً ما في طليعة الصف الوطني وذات نجومية شكّلت وجدان الناس.
نحن نعيش مرحلة، وغداً تأتي مراحل أخرى، وربما تنظر أجيال قادمة لما نراه اليوم بنظرة مغايرة. لذلك، فإن اختزال التاريخ في لحظة، خطأ في التقدير، وظلم للرواية، وتبسيط مُخلّ لوضع متشابك.
لعلها مناسبة، وإن أتت على هامش السياق، للتنبيه إلى أن الانشغال بأصول القادة وأنسابهم، أو الغوص في تصنيفات الشرائح الاجتماعية، إنما هو انحدار فكري لا يليق بعصرٍ تشكّل من تداخل المجتمعات، ومن طبقات التاريخ التي نسجتها حضارات ودول وشعوب تمازجت وتقاطعت، حتى أنجبت من نراهم اليوم على امتداد القرى والمدن، في الشمال كما في الجنوب. وهي سِمة لا تخص قطرًا دون آخر، بل تتسع لتشمل الجغرافيات قاطبة، بما فيها من تشابُه في النشأة، وتعقيد في الهوية، وثراء في الامتزاج.
وللتذكير أيضاً بأن ما يختلف عليه الناس شمالاً وجنوباً هو بشأن دولتين اتحدتا وفشلت وحدتهما، لا بشأن أعراق أو عناصر بشرية مختلفة.
فتّاح، أحد قادة دولة الجنوب، كان له ولرفاقه مواقف ورؤية تجاه طبيعة الدولة ونهجها. توافقوا واختلفوا حول مسائل ووسائل متعددة، وهذه سمة الأنظمة العربية على اختلاف أنماطها وألقاب قادتها. لكن لا يوجد قائد محوري في الجنوب وضع مقاربته الخاصة وجرّ الآخرين كالعميان خلفه، لأن هذا المنطق لا ينسجم مع العقل. وإن أردت، عزيزي القارئ، أن تُقيّم تلك المرحلة فعليك أن تتناول السياسات لا الأفراد. وعليك أن تضع كل مرحلة في سياقها التاريخي لتعرف أن الوضع العربي والدولي كان مختلفاً للغاية.
هذا الزمن المزيف بكل مساوئه سيأخذ أوجاعنا ويمضي بعيداً دون رجعة! وكما تعودنا في كل “مخلف صعيب” تتجسد الحاجة إلى “مصطفى” بغض النظر عن رمزيته في سياق الدلالة الإيحائية للشاعر البردوني، لنراه: كتاباً من كل قلب تألّف. وعلى أي حال، هذا ليس حديث الماضي وإنما محاولة (كشف) كي نرى ما حل بنا الآن.