“صحيفة الثوري” – ترجمات:
عندما التقى وفد من الأمريكيين السوريين بالرئيس أحمد الشرع في دمشق في وقت سابق من هذا العام، قال إن العبء يقع عليهم للمساعدة في رفع العقوبات الأمريكية الخانقة المفروضة على سوريا.
كان قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين، الذي يفرض عقوبات على أي شخص يتعامل مع الحكومة السورية (باستثناء المساعدات الإنسانية)، قد اقر في عام 2019 وكان من المفترض أن ينتهي مفعوله بعد خمس سنوات، لكن مجموعات من السوريين الأمريكيين ضغطت لتمديده حتى عام 2029 ونجحت في ذلك قبل أيام فقط من إسقاط قوات الشرع المتمردة لنظام بشار الأسد.
بحسب من حضروا الاجتماع، فقد مازح أحد أعضاء الوفد الشرع – الذي كان سابقًا قائدًا في تنظيم القاعدة ولم يمض وقت طويل على حلق لحيته واستبدال بدلته العسكرية الكاكي ببدلة وربطة عنق – قائلًا إنهم لم يكونوا ليضغطوا من أجل التمديد لو أنه أخبرهم بأنه على وشك الإطاحة بالأسد.
ضحك الرئيس، لكن خفة الظل الشامية لم تُخفِ جدية الموقف، فالشرع، البالغ من العمر 42 عامًا، يحاول حكم بلد دمرته حرب أهلية دامت 14 عامًا، والحصول على إعفاء من العقوبات هو أولوية ملحة، ومحورية لإعادة تشغيل الاقتصاد.
يقول تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في فبراير، إن الصراع السوري الذي أودى بحياة أكثر من 600 ألف شخص وشرّد الملايين، أدى إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي لسوريا إلى النصف تقريبًا منذ عام 2010، أي قبل اندلاع الحرب بسنة، ويعيش تسعة من كل عشرة سوريين الآن في فقر، وواحد من كل أربعة بلا عمل، وقد تم تدمير أكثر من نصف البنية التحتية الأساسية للبلاد بسبب القصف، وتُقدّر تكلفة إعادة الإعمار بين 250 و400 مليار دولار.
يقول عبد الله الدردري، الذي شغل سابقًا منصب وزير التخطيط في عهد الأسد ويشغل الآن منصب مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لمنطقة الدول العربية: “مستقبل سوريا يعتمد على نهج تعافٍ تنموي قوي”.
ويبدو ان الشرع، الذي أثار إعجاب العديد من المتحدثين معه مؤخرًا بمعرفته في الاقتصاد، يأخذ بهذه النصيحة، فقد تحدث في وقت سابق من هذا العام عن تشكيل فريق عالي المستوى لوضع خطة تعافٍ اقتصادي لعشر سنوات، وقال الشرع في مقابلة في فبراير: “اليوم هناك كارثة كبرى في سوريا، لكن في الحقيقة هذه فرصة استثمارية ضخمة لأن البلاد عطشى لكل شيء”.
الخبر الجيد هو أن المساعدة قريبة: فدولة قطر وعدة دول خليجية عربية أبدت استعدادها لتقديم الدعم، بهدف إعادة سوريا إلى الحاضنة العربية.
كانت إيران الراعي الإقليمي الرئيسي لسوريا في عهد الأسد، أما الآن، فتركيا تسعى إلى الحصول على الحصة الأكبر من مشاريع إعادة الإعمار، وهي حريصة على ترسيخ نفوذها وجني ثمار دعمها لمعارضي الأسد واستضافتها لملايين اللاجئين، كما تسعى مجموعات من السوريين في المهجر للمساهمة في جهود الإعمار.
أما الخبر السيئ، فهو أن العقوبات تعرقل كل تلك الجهود.
بعض السوريين في الشتات يستفيدون من الاستثناءات الإنسانية لتقديم الطعام والملابس للسوريين، وترميم المستشفيات والمدارس، وحتى دفع رواتب المعلمين الذين لا تتجاوز أجورهم ما يعادل 25 إلى 50 دولارًا شهريًا، لكن هذه الجهود لا تعدو كونها قطرة في بحر.
يقول موفّق القداح، رجل الأعمال السوري-الإماراتي: “سوريا ستزدهر إذا أُتيحت لها الفرصة. لدينا جميع مقومات النجاح”.
ما الذي تتوقعه واشنطن
يجادل الشرع ومؤيدوه بأن سقوط نظام الأسد يُفقد قانون قيصر مبرره، لكن موقف إدارة ترامب لا يزال غير واضح، فقد كرر الرئيس الأمريكي رغبته في تخلي بلاده عن التزاماتها في بؤر التوتر في الشرق الأوسط، وإقناعه بدعم الشرع – حتى كوسيلة للتأثير والاستقرار – ليس بالأمر السهل.
لمح وزير الخارجية ماركو روبيو ومسؤولون آخرون في وزارة الخارجية إلى أن العقوبات على سوريا قد تُخفف إذا ما تشكلت حكومة انتقالية تعددية وذات مصداقية، وإذا انطلق مسار سياسي يضمن تمثيل الأقليات في البلاد.
وزار العضوان الجمهوريان في الكونغرس كوري ميلز ومارلين ستاتزمان دمشق الأسبوع الماضي والتقيا بالشرع في زيارة غير رسمية نظمها أمريكيون سوريون نافذون.
يقول ميلز، وهو جندي سابق خدم في العراق، إنه ابلغ الرئيس السوري بأن الولايات المتحدة بحاجة لرؤية تقدم في قضايا عدة للنظر في تخفيف العقوبات، منها: تدمير أي أسلحة كيميائية متبقية من عهد الأسد، والتعاون في مكافحة الإرهاب، ومنع عودة النفوذ الإيراني وأذرعه، ومعالجة المخاوف الأمنية الإسرائيلية، ووضع خطة للتعامل مع المقاتلين الأجانب في سوريا.
يقول ميلز: “أنا متفائل بحذر وأسعى للحفاظ على حوار مفتوح”، مشيرًا إلى أنه يعتزم إطلاع ترامب ومستشار الأمن القومي مايك والتز على نتائج زيارته.
لكن العديد من مسؤولي الاستخبارات والأمن الأمريكيين لا يزالون يعتبرون الشرع جهاديًا يسعى لإقامة دولة إسلامية أصولية، بحسب ثلاثة أشخاص اجتمعوا مؤخرًا مع مسؤولين كبار لمناقشة الوضع في سوريا (فضلوا عدم الكشف عن هوياتهم بسبب حساسية الاجتماعات)، ويشارك العديد من السوريين، خصوصًا في أوساط الأقليات الدينية والعرقية، هذا القلق.
وبعيدًا عن الضغط في واشنطن، سيتعين على الشرع أن يبرهن على استعداده للقيام بما لم يفعله الأسد: طمأنة الطوائف والإثنيات السورية بأن حكومته ستخدم مصالح الجميع.
فسيفساء طائفية
الطريقة التي سيختار بها الشرع الحكم ستحدد ما إذا كانت سوريا ستنجو من مصير دول عربية أخرى أُطيح فيها بالدكتاتوريين في السنوات الأخيرة، مثل العراق وليبيا والسودان واليمن، حيث عانت الحكومات الانتقالية من العنف الفئوي، والفساد المستشري، والشلل الإداري.
كانت تصرفات الشرع حتى الان مزيجًا من الإشارات الإيجابية والمثيرة للجدل، فقد بذل جهدًا خاصًا لاستمالة الزوار الغربيين، بما في ذلك وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، ونظيرها الفرنسي جان-نويل بارو، وباربرا ليف، مساعدة وزير الخارجية الأمريكي السابقة لشؤون الشرق الأدنى في إدارة بايدن، كما وعد السوريين بعملية شفافة وشاملة لإجراء تعداد سكاني وصياغة دستور جديد، تمهيدًا لانتخابات حرة بحلول عام 2030.
وقال الشرع خلال حفل إعلان الحكومة الانتقالية الجديدة في مارس: “إنها لحظة حاسمة في تاريخنا، وبصفتي رئيس الجمهورية أعدكم أنني سأكون معكم في كل خطوة على طريق بناء المستقبل. فلنعمل معًا من أجل سوريا التي نستحقها”.
تعكس الحكومة الجديدة تركيبة سوريا المتنوعة: تضم مسيحيًا، وكرديًا، ودُرزيًا، وعلويًا (الطائفة التي تُربط عادة بالفرع الشيعي من الإسلام)، لكن الشرع أعلن نفسه رئيسًا وأقال العديد من المسؤولين السابقين من الطائفة العلوية التي هيمنت على الحكم في سوريا لعقود، كما عقد مؤتمر حوار وطني محدودًا قبل أن يطبق الدستور الانتقالي الذي يمنحه صلاحيات واسعة، واحتفظ بالسيطرة على مفاتيح السلطة الحقيقية، إذ أوكل المناصب الحساسة إلى قادة متمردين سنة ساعدوه في إقامة كيان إسلامي شبه مستقل في إدلب (السنة يشكلون الأغلبية السكانية في سوريا).
هذه الخطوات توحي بتصفية حسابات بالنسبة للبعض.
يقول المحامي والناشط البارز في المقاومة السلمية ضد الأسد، مازن درويش، الذي سُجن وتعرض للتعذيب بين عامي 2012 و2014: “ما يحدث قد يؤسس لشكل جديد من الاستبداد”.
تلقت فرص المصالحة بين السنة والعلويين ضربة قوية في فبراير، حين شن مسؤولون أمنيون سابقون ومقاتلون موالون لنظام الأسد هجومًا على قوات حكومة الشرع في الساحل الغربي، وقد أدى ذلك إلى دعوات للانتقام من قبل أنصار الشرع، سرعان ما تحولت إلى موجة من أعمال القتل الانتقامية، وتقول منظمات سورية غير حكومية، ان مئات المدنيين العلويين اعدموا على يد مسلحين سنة سعوا للثأر عن جرائم ارتكبت خلال عهد الأسد.
تراجعت حدة العنف لاحقًا، لكن المخاوف من تكراره لا تزال قائمة. تقول دارين خليفة، كبيرة المحللين في مجموعة الأزمات الدولية: “إنه توازن حساس للغاية، فالمطلوب هو معالجة مظالم السنة مع احتواء تمرد محتمل في صفوف العلويين”.
وقد شهد الشرع بنفسه عواقب الفشل في ذلك، حين سافر إلى العراق للانضمام إلى تنظيم القاعدة بعد أن أطاح الغزو الأمريكي بصدام حسين عام 2003.
التركيبة الطائفية في العراق معكوسة مقارنة بسوريا: فقد كان السنة أقلية لكنهم هيمنوا على الدولة قبل 2003 في ظل حزب البعث، في حين كان الشيعة، رغم أغلبيتهم، مهمشين سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا، ويشكل الأكراد، في العراق كما في سوريا، أقلية تسعى للحكم الذاتي بعيدًا عن المركز.
أدى تفكيك الجيش العراقي إلى تسابق جميع الطوائف لتشكيل ميليشيات خاصة بها، للدفاع أو للهيمنة.
يقول الرئيس العراقي السابق برهم صالح، وهو كردي: “لقد أضعفنا الدولة العراقية بشكل كبير”، ويرى أوجه تشابه بين نهج الشرع في الاستئثار بالسلطة وبرنامج اجتثاث البعث الذي قادته الأغلبية الشيعية وحلفاؤها الأكراد، ويضيف: “اليوم، الجميع محكومون بدولة تهيمن عليها الميليشيات”.
فوضى السلاح والجيران القلقون
تشير ماري فيتزجيرالد، الباحثة في معهد الشرق الأوسط، إلى أن انتشار السلاح وتعدد الميليشيات — إضافة إلى إقصاء أي شخص مرتبط بالنظام السابق — كانت من العوامل الرئيسية التي أجهضت مرحلة الانتقال في ليبيا بعد سقوط معمر القذافي عام 2011.
تقول فيتزجيرالد: “تلك العوامل أطلقت ديناميكيات غذّت الصراع الأهلي الذي اندلع عام 2014، ثم جاءت التدخلات الخارجية التي زادت الأمور سوءًا”.
ويبدو أن سوريا ليست بمنأى عن السيناريو ذاته، فعلى الرغم من تعهدات الشرع بحل الفصائل المتمردة ودمجها في جيش وشرطة وطنيين، لا تزال عشرات المجموعات تحتفظ بأسلحتها.
يقول عصام الريس، الخبير العسكري في منظمة “إيتانا سوريا” المعنية بالديمقراطية: “من المفترض أن تكون هذه الفصائل تحت سلطة الحكومة، لكنها في الواقع تحتفظ بمنابع تمويل وسلاح خارج سيطرتها”.
من بين أكثر هذه القوى تسليحًا، قوات سوريا الديمقراطية بقيادة الأكراد، التي تسيطر على نحو ربع البلاد وقد لعبت هذه القوات بدعم أميركي دورًا حاسمًا في محاربة تنظيم الدولة، وقد وقّع قائدها اتفاقًا مع الشرع لدمجها في مؤسسات الدولة، لكن لا تزال هناك خلافات — أبرزها مدى السماح بالحكم الذاتي للأكراد ضمن الدستور الجديد.
اقليم صعب
وكأن بلدًا منهكًا، واقتصادًا مشلولًا، وخطر صراع طائفي وعرقي ليس كافيًا، يواجه الشرع تحديًا إضافيًا: التعامل مع جيران متوترين مثل تركيا، وإيران، وإسرائيل، بالإضافة إلى لاعبين بعيدين كروسيا وجميعهم يريدون دورًا في تحديد مستقبل سوريا، ومع غموض الدعم الأمريكي، لا يملك الشرع ترف معاداة أي منهم.
لهذا السبب، فتح الشرع الباب أمام التعاون مع فلاديمير بوتين، مانحًا روسيا حق الحفاظ على قواعدها العسكرية في سوريا، رغم دعمها للأسد حتى منحته وعائلته اللجوء، أما إسرائيل، فقد اتخذت موقفًا عدائيًا من حكومة الشرع، إذ يرفض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المغامرة بوجود دولة ذات قيادة إسلامية على حدوده الشمالية الشرقية، وشنت القوات الإسرائيلية ضربات منهجية ضد ترسانة سوريا العسكرية منذ سقوط الأسد، بل ونشرت جنودًا داخل الأراضي السورية، فيما تسميه “منطقة عازلة جديدة”.
ويحاول الشرع تجنّب التصعيد رغم إدانته لهذه الأفعال، مركزًا على تثبيت سلطته واستقرار البلاد، لكن الضربات الإسرائيلية المتواصلة، مثل تلك التي وقعت في أوائل أبريل وأسفرت عن مقتل تسعة أشخاص في محافظة درعا، قد تدفعه للرد، مما ينذر بتفجر الأوضاع.
في ظل كل هذه الضغوط، ليس مفاجئًا أن الشرع يبدو أكثر ارتياحًا عند لقائه مجموعات من السوريين في الشتات، خاصة أولئك الذين يتمتعون بنفوذ في واشنطن، فهؤلاء بدورهم تجاوزوا ترددهم السابق بشأن انتمائه لتنظيم القاعدة.
تقول رُبى هاشم، المديرة التنفيذية في قطاع التكنولوجيا والمقيمة في دبي: “نحن ممتنون له ولثواره — نحن ندين لهم بذلك”.
وقد أطلق هؤلاء السوريون الأمريكيون بالفعل حملة جديدة للضغط على صناع القرار في الولايات المتحدة، ويقول طارق نعمو، وهو مطوّر عقاري مقيم في فلوريدا، إنه حصل على موعد مع ترامب في منتجع مارالاغو أوائل مايو، ويخطط لإقناع الرئيس السابق بأن دعم الانتقال بقيادة الشرع هو “فرصة لإعادة تشكيل المنطقة بأسرها”، نظرًا للموقع الجغرافي الاستراتيجي لسوريا بين شبه الجزيرة العربية والبحر المتوسط.
الشرع، ومعظم السوريين، يأملون أن يُصغي ترامب.
(بلومبيرغ)