“صحيفة الثوري” – تقارير:
زيد بنيامين
بعد عمر امتد على مدى سبعين عامًا، ثلاثون منها في الحكم رئيسًا لسوريا… وخلال ثمان عشرة ساعة من العمل اليومي… استسلم ذلك الابن القادم من عائلة عملت في فلاحة الأرض أمام ذبحة قلبية كانت الثانية خلال حياته… وذلك أثناء حديث هاتفي مع الرئيس اللبناني السابق (اميل لحود) … منهياً بذلك فصلاً مهمًا في التاريخ السوري ربما ما زال يثير الكثير من الجدل، وتمتد آثاره حتى يومنا هذا.
كان حافظ الاسد خلال هذه الرحلة قد نجا من العديد من محاولات الاغتيال، كما نجا من العديد من محاولات الإبعاد عن السلطة، ولم يبتعد عن القسوة في بعض المراحل من أجل الحفاظ عليها في بلد يعيش في منطقة مضطربة.
الاسد كان قليل السفر إلى خارج سوريا، كما كان قليل الخروج في سوريا نفسها واقتصر ظهوره على المناسبات الدينية كعيدي الفطر والأضحى.
كان منزله يقع في مقابل مكتبه الرئاسي وهناك كان يدير احد اهم الرجالات الذين مروا على سوريا واكثرهم دهاء في امور بلده علاقاتها مع الخارج، وكان يعرف تحديدًا متى يرخي الحبل ومتى يشده.
كانت سوريا بلدًا مراهقًا قبل مجيء حافظ الاسد الى الحكم في دمشق، ربما لو قلنا مراهقًا سياسيًا لكان الوصف ادق.. فعاصمة الأمويين عرفت في هذه المرحلة من التاريخ بكثرة انقلاباتها المتتالية خصوصًا بعد الاستقلال عن فرنسا في عام 1946.. وكان عمر حافظ الاسد وقت الاستقلال تحديدًا ستة عشر عامًا ويعيش في بيئة فقيرة وبلد بلا اي ملامح من التطور الحضاري، والشعب يعيش في فوضى لا يعرف صورة غده.
ولد الاسد في عائلة فقيرة في السادس من اكتوبر عام 1930 وكان التاسع من بين احد عشر طفلاً، وكانت عائلته بالكاد تعرف بين سكان تلك القرية المنسية في القرداحة وهي القرية التي عاش فيها والواقعة في جبال الانصارية والتي نشأت جيولوجيًا اثناء تكوين ساحل البحر الابيض المتوسط.
كانت تلك الجبال كفيلة بحماية عائلته وقريته التي انتمت الى الاقلية العلوية التي تعد احد اقسام الطائفة الشيعية في بلاد غالبية سكانها من السنة، لكنها كانت مجهولة ومهملة طوال 400 عام من الحكم العثماني السني لذلك الجزء من الأرض.
وتشير بعض المصادر انه اثناء ولادة حافظ الاسد، فإن تلك القرية كانت مكونة من مئة منزل ولم يكن فيها اي مسجد او سوق او حتى مكان يتجمع فيه ابناء القرية فيما يقول (باتريك سيل) في كتابه (اسد سوريا.. معضلة الشرق الاوسط) ان القرداحة كانت عبارة عن طريق يقع في نهايته مكب للأوساخ.
تزوج والده مرتين خلال حياته.. وقرر اسكان زوجتيه كل على حدة في غرفتين منفصلتين في ذلك البيت الصغير المبني بالحجر في القرداحة … فيما كان العالم العربي قد خرج توًا من الاحتلال العثماني الى احتلال فرنسي او بريطاني بعد ان نجح الغربيون في الحصول على ثقة العرب لينقلبوا عليهم في الواقع ويرث الاحتلال احتلالاً اخر
كان الشعب السوري شعبًا يعشق الحديث عن السياسة.. وكان صدى اتفاقية سايس بيكو قد تحولت الى تراث يتناقله السوريون خصوصًا والعرب عمومًا حيث نجح البريطانيون والفرنسيون في تقسيم اراضي العرب فيما بينهم وكان هذا الموضوع فيما بعد الحديث المفضل للأسد امام جميع ضيوفه من الغربيين.
وجد الفرنسيون في العلويين… حلفاء محتملين… ولذلك قرروا ان يفتحوا عددًا من المدارس الفرنسية في قرية القرداحة.. ولم تقتصر مثل هذه (المكارم الاستعمارية) على الطائفة العلوية بل جميع الطوائف الصغيرة التي شكلت ذلك البلد وكان حافظ من بين الاوائل الذين درسوا هناك بالطبع.
انتقل ذلك المراهق الصغير في عام 1944 الى اللاذقية ليكون اول فرد من عائلته يقوم بزيارة تلك المدينة الواقعة على الساحل.. وكان الغرض من تلك الزيارة اكمال دراسته الثانوية لكنه وجد نفسه وسط جو سياسي مشحون خلقه ابناء المدينة تسبب في ادخاله السجن وهو فتى يافع لم يتجاوز من العمر الاربعة عشر عامًا.
القي القبض على حافظ الاسد ومجموعة من زملائه بعد ان دخلوا في مناقشات جمعت تيارات سياسية متعددة.. فمن تلك المجموعة من كان ينتمي الى الشيوعيين ومنهم من كان ينتمي الى التيار القومي العربي.. ومنهم من كان اسلاميًا… وكان هذا الحديث السياسي يزداد حدة خصوصًا مع نيل سوريا الاستقلال بعد عامين فقط من وصول الاسد الى اللاذقية.
وخلال هذه المرحلة انضم الاسد الى حزب البعث العربي الذي شُكل حديثًا والذي كان يدعو الى بعث المجد والانجازات العربية القديمة.
كان الاسد نشطًا في دراسته الثانوية.. فاختير رئيسًا للجنة شؤون الطلبة وخلال ترؤسه لهذه اللجنة كان الاسد يسمح للطلبة المنتمين الى الاحزاب القومية بتنظيم تظاهرات في المدرسة ضد بقية الاحزاب وضد الحكومة وهو الحق الذي لم يمنحه للطلبة المنتمين الى بقية الاحزاب.. وتقول بعض المصادر ان الاسد ارتقى الى مراتب اهم من ذلك حينما وصل الى منصب رئيس لاتحاد الطلبة في سوريا.
انهى الاسد دراسته الثانوية عام 1951 وكان عمره آنذاك واحد وعشرين عامًا، كان الرجل قد تخرج سياسيًا قبل ان يكون قد انهى مرحلة الدراسة هذه، وكان شغفه بالسياسة وكواليسها قد تعاظم حتى انه تأخر في دراسته بسبب ذلك… لكن بقي الفقر هو الصوت الاعلى في حياته والمؤثر في خياراته ومن هنا كان القرار هو الهروب من الفقر بالانضمام الى الجيش، تاركًا حلمه بالانضمام الى كلية الطب في الجامعة اليسوعية في العاصمة اللبنانية بيروت لضيق ذات اليد.
انضم الاسد الى كلية القوة الجوية في حمص عام 1951 وكان الاستقلال قد ترك له اثرًا على الجيش حيث سمح لأبناء الطبقات الفقيرة بالدخول إليه وكانت اجور الدراسة اقل بكثير مما كانت عليه الحال قبل الاستقلال.
كان العلويون عمومًا – حالهم كحال بقية الاقليات في هذه المنطقة التي بدأت تتشكل – يسعون للوصول الى مراتب افضل سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا من خلال الجيش.
بعد فترة قصيرة من الانضمام الى الجيش.. ظهر المد الناصري في مصر خصوصًا مع بداية النصف الثاني من عقد الخمسينات.. استمر الاسد في الدراسة حتى عام 1955 حينما تخرج من دراسته للطيران العسكري ملازمًا.
في عام 1958 كانت سوريا ومصر على موعد مع الوحدة وتشكيل الجمهورية العربية المتحدة.. تلك الوحدة التي جاءت في عصر تعددت فيه التحالفات من اجل تشكيل سور ضد المد الشيوعي سواء ما كان منها بدفع غربي او ما كان تحديًا للغرب نفسه.. فكانت الفكرة تشكيل تحالف عربي خالص من هذا النوع للوقوف ضد اي مد من اي نوع كان… لكن تلك الدولة لم تستمر سوى ثلاث سنوات لتنهار عام 1961 بسبب عبد الناصر نفسه الذي فرض سياساته على السوريين والذين باتوا مواطنين من الدرجة الثانية في الجمهورية الوليدة.
حينما أصبحت القاهرة طريق حزب البعث للوصول الى السلطة
كان حافظ الأسد يعيش بعيدًا خلال السنة الأولى من عمر الوحدة بين مصر وسوريا… حيث نجح في الوصول إلى الإتحاد السوفياتي ليتدرب على قيادة طائرتي (ميغ 15) و (ميغ 17) وهي طائرات كان من المقرر ان تسلم الى سوريا ضمن صفقة سلاح وقعت بين البلدين.
أرسل الأسد إلى مصر مع مجموعة من الضباط السوريين حال عودته من البعثة… كان الرجل حانقًا على قيام عبد الناصر بتهميش السوريين في النظام العربي الجديد في الدولة المتحدة، وعلى الرغم من أن زيارته كانت قصيرة لدمشق لكنها كانت كافية ليطلع على كل المستجدات… وهنا جاء القرار بتشكيل فريق مهمته السيطرة على العاصمة السورية دمشق وإبعادها عن الوحدة، ولكن سرعان ما تحول هذا الحلم الى السيطرة على سوريا بأكملها.
 السنوات التي تلت الوحدة كانت كفيلة بتغذية حلم الاسد في السيطرة على سوريا خصوصًا لما شهدته من اضطراب سياسي… فالإعدامات كانت جارية على قدم وساق في جميع انحاء البلاد.. كما كان ارسال خيرة ابناء سوريا كمنفيين الى الخارج امرًا طبيعيًا… وكان الجيش احد ضحايا هذه السياسة.. حتى اندلعت حرب عام 1967 وفيها وجد الجيش السوري نفسه في اسوء حالاته وغير جاهز للمشاركة في اي معركة بهذا الوزن كونه من دون اعداد للمواجهة ومن دون عناصر يمكن الاعتماد عليها لمثل هذه الحروب السريعة.
 كانت الحروب التي شهدتها المنطقة خلال الفترة بين 1967 و1973 قد مهدت الطريق للأسد للوصول الى الحكم … فمع حلول فبراير العام 1966 وصل الاسد الى منصب وزير الدفاع بنجاح مجموعته التي شكلها في القاهرة من اجل ابعاد سوريا عن الهيمنة المصرية في الوصول الى الحكم.. وقتها كان الاسد يبلغ من العمر 35 عاماً وكانت تلك هي مشاركته الحكومية الاولى.. وعرف عن هذه الحكومة التي شارك فيها بأنها الاقسى في تاريخ سوريا المعلوم حتى ذلك الوقت، فقد مارست القمع في الداخل، وحاولت انهاء النخبة السياسية السنية في البلاد، كما دعمت الجماعات الفلسطينية في الخارج وخصوصًا في الأردن.
وبحلول نهاية العام 1967 كان العرب على موعدهم مع حرب جديدة مع اسرائيل والتي استمرت في حدود الاسبوع … كانت تلك الحرب حركة عسكرية اكثر منها حركة تكتيكية.. فالحرب على الارض قد اثبتت افلاس الشعارات وكذب البيانات العربية بخصوصها.. وخلال ست ايام فقط احس العرب بالحرج بعد ان فقدوا القطاع الشرقي من القدس وشبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان في سوريا بينما كانت بياناتهم تسقط الطائرات بشكل يخيل ان العرب كانوا يصيدون الذباب!
ونال حافظ الأسد حصة كافية من النقد على الفشل في تلك الحرب باعتباره وزيرًا للدفاع.
في عام 1970 كان الاسد على موعد مع السلطة حيث كانت مواجهات الفلسطينيين والاردنيين في ما عرف بأحداث ايلول الاسود في الاردن وشوارع عمان تحديدًا سببًا لما سماه الاسد فيما بعد (الحركة التصحيحية)، وقتها ارسلت سوريا الدبابات الى الحدود لدعم المجموعات الفلسطينية ضد حكم الملك حسين في عمان ولكن وزير الدفاع (وهو الاسد) تقاعس عن ارسال القوات الجوية لدعم تلك المجموعات التي اصبحت هدفًا سهلاً للقوات الجوية الاردنية والمفارقة ان الرجل الذي انقذه الاسد بعدم ارساله تلك الطائرات (وهو الملك حسين) سيظل على خلاف قوي معه حتى موت الاثنين فيما بعد (الحسين استضاف اجتماعات جماعة الاخوان المسلمين السورية في عام 1979 التي اطلقت حربًا طائفية ضد حزب البعث وانتهت بمجزرة حماة).
 كانت سوريا ما زالت تعيش حالة الفوضى التي ازدادت بوصول الجيش الى الحدود السورية وتركه لعدد من مواقعه المهمة داخل العاصمة، وكان اداء الجيش اثناء تلك المواجهات في الاردن قد اخرج صلاح جديد وهو رئيس اللجنة العسكرية التي وصلت الحكم في 1966 من عقاله وقرر عقد اجتماع قطري للحزب من اجل محاسبة الاسد وزميله مصطفى طلاس الذي سيصبح ابرز وزير دفاع في عهده وهو ما لم ينجح فيه الرئيس جديد حيث كان الاسد قد حرك قواته من اجل السيطرة على السلطة ووضع زميله جديد في السجن لما تبقى من عمره (حتى وفاته عام 1993) بعد ان كان قد اعاد هذا الرجل (جديد) الاسد الى سوريا في عام 1963 اثناء ما عرف في ادبيات البعث بانه (ثورة الثامن من اذار) وقام بترقيته الى رتبة لواء وعينه قائدًا للقوة الجوية والدفاع الجوي.
 كان هم الاسد الاول بعد وصوله الى السلطة هو استعادة ما خسرته سوريا خلال حرب عام 1967 ولهذا كان مستعداً لكي يعقد التحالفات مع الرئيس المصري الجديد انور السادات، حيث استفاد الاثنان من المنافسة المحتدمة بين المعسكرين الراسمالي بقيادة الولايات المتحدة والاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي وتحديداً حينما بدأت موسكو تضخ مليارات الدولارات على شكل صفقات اسلحة الى منطقة الشرق الاوسط مقابل قيام الولايات المتحدة بدعم اسرائيل وحلفائها في المنطقة اللذين تراجع عددهم انذاك لمعادلة الكفة.
 لكن انور السادات كان اكثر ذكاءً حينما اراد ادخال الرئيس الاسد في الحرب من اجل فتح جبهتين امام اسرائيل بدل ان تكون واحدة وليستعيد سيناء بغض النظر عن النتيجة في الجبهة السورية.. بينما سلم الاسد نفسه الى رغبة السادات معتقدًا ان قرارهما في الحرب سيكون واحداً.
بدأت القوات المصرية والسورية مناورات عديدة على الحدود الجديدة في مواجهة اسرائيل، فيما اعتقدت الاخيرة ان خط بارليف سوف يحيمها من اي هجمة قادمة من مصر وقد قرر الزعيمان المصري والسوري استبعاد اخبار الملك الحسين بهذا الهجوم خوفًا من تسرب المعلومات الى الخارج، او الى اسرائيل تحديدًا كما كانا يظنان.
 وبحلول السادس من اكتوبر 1937 بدأت القوات المصرية عبور قناة السويس الى الضفة الشرقية، بينما بدأت القوات السورية تتقدم نحو مرتفعات الجولان غربًا، فيما اكتفى الطرف الثالث في الحرب وهم الاسرائيليون بمراقبة ما يحدث على الحدود وهم في حالة صدمة شديدة.
 خلال الايام الاولى من الحرب بدا أن اسرائيل لن تنجو من الضربة ولكن تدريجيًا بدأت القوات الاسرائيلية باستعادة ما خسرته، كان المصريون في هذه الاثناء قد فرضوا سيطرتهم على الجانب الشرقي من قناة السويس وبدأوا بالتوغل الى داخل سيناء وتوقف ذلك التوغل بسبب وجود خلاف قائم داخل القيادة العسكرية المصرية يدور حول المدى الذي ستنجح فيه القوات من الوصول داخل سيناء بدون غطاء جوي.
 في هذه الاثناء، بدأ الاسد يشعر بخيانة انور السادات له، حيث كان يعتقد ان توقف القوات المصرية في توغلها على حد معين دون التوغل في سيناء كاملة (بسبب عدم وجود غطاء جوي يحمي القوات المصرية) كان من اجل البحث عن نصر معين محدود هذه المرة وهو نصر دبلوماسي، وكان الاسد يعتقد ان السادات يريد ان يعيد صورة الجيش القوي الى الجيش المصري والاهم من كل ذلك ان يفوز بالاهتمام الاميركي بقضيته الخاصة بسيناء وبالسلام مع إسرائيل.
مع حلول نهاية شهر اكتوبر من ذلك العام والتوصل الى اتفاق هش لوقف اطلاق النار كان واضحاً ان العرب قد خسروا الحرب مرة ثانية.
 خلال هذه المرحلة حاول الاميركيون التدخل من اجل التوصل الى سلام دائم، حيث بدأ وزير الخارجية الاميركي هنري كيسنجر بالسفر بين دمشق والقاهرة وتل ابيب لرسم صورة صفقة ما، لكن الآمال الاميركية سرعان ما كانت تتحطم على صخرة الاسد في العاصمة السورية في دمشق حيث اكتشف كيسنجر ان سوريا ليس لديها اي نية للمشاركة في تلك العملية كما كانت تدعي.
الأسد: ما حصل في حماة كان ضروريًا للتخلص من الإرهاب الإسلامي.
نجح الأميركيون بدورهم أمام هذا الواقع (واقع عدم رغبة الأسد في الحصول على سلام بغير ما كان يعلن عادة)، في اقناع انور السادات في أن يسير لوحده في عملية سلام منفردة على المسار المصري الاسرائيلي، ووجد الأسد أن الأميركيين الذين كانوا يطرقون الباب للحديث معه أداروا له ظهرهم وبقيت قضية الجولان في مكانها حيث تحول الجولان إلى أهدأ منطقة محتلة في العالم، على الرغم مما سيحصل فيما بعد حينما ستؤدي سوريا في مكان آخر هو لبنان دورا لتسترعي الانتباه العالمي (والاميركي تحديدًا).
كانت الازمة التي شهدها الشرق الاوسط عام 1973 بمثابة (لعب اطفال) بالمقارنة مع ما حصل في عام 1975 في لبنان حينما انطلقت الحرب الاهلية من عقالها وانطلقت شرارة الحرب لتشرك كل قطاعات الشعب اللبناني المكونة من المسيحيين اللبنانيين (المتمسكين بالحكم على الرغم من تراجع نسبتهم من سكان لبنان) والفلسطينيين التابعين لمنظمة التحرير والسنة والشيعة والدروز، بينما اكتفى القصر والجيش اللبناني بالوقوف على خطوط المواجهة بين هذه القطاعات وبدأ المسيحيون يفقدون السيطرة ويتراجعون امام المسلمين الذين تفوقوا عليهم بالعدد.
كان الاسد يرى كما هو حال جميع السياسيين السوريين ان لبنان يعد امتدادًا طبيعيًا لسوريا وجزءًا منه الا ان الاستعمار الاوروبي تسبب بانفصاله بصورة غير عادلة.. لذلك جاء قراره بالتدخل في هذا الصراع (كي لا يقع لبنان ضحية لقوى خارجية وهي حجة السوريين الدائمة في كل تدخل او وجود على الساحة اللبنانية) ساعيًا لمنع تراجع المسيحيين في ذلك البلد وفي هذه الحرب.
وصف المعارضون لهذا التدخل خطوة الاسد باعتبارها تهدف لحماية الاقلية المسيحية في الحكم اللبناني (ولكي يمنع اي محاولة في سوريا لإزاحة الاقلية العلوية من الحكم.. وهو الاتهام نفسه الذي وجه لسوريا عام 1997 عندما قررت اعادة العلاقات مع العراق).
تدخل الاسد في هذا الصراع، اعاد له السيطرة على منظمة التحرير الفلسطينية التي كان يقودها عرفات بعد ان كان الاثنان لا يطيقان بعضهما… خصوصًا حينما قام الاسد بسجن عرفات في دمشق عام 1966 بتهمة محاولة (ابو عمار) الغاء التأثير السوري على الحركة الفلسطينية التي كانت حديثة التأسيس.
كان الصراع اللبناني بابًا لصراع دموي اكثر حينما فتح الباب امام حرب اسرائيلية سورية بعد ان قامت تل ابيب باجتياح لبنان والوصول الى بيروت.
في تلك الحرب كان اداء القوات الجوية السورية سيئاً للغاية حيث خسرت القوات السورية 79 طائرة ميغ بالإضافة الى العديد من الدبابات وبطاريات الصواريخ في ايام قليلة. ورغم هذه الخسارة الفادحة.. الا ان الاسد حاول من جديد اعادة السيطرة على جاره لبنان (كما اتهم) من خلال اغتيال الرئيس اللبناني (بشير الجميل) في سبتمبر 1982 والذي كان يدعم وبقوة وفعالية مسألة فصل المسارات التفاوضية في مسألة السلام بين لبنان وسوريا.
اعتمد الاسد بشكل اساسي خلال تلك الفترة على الاسلحة السوفياتية ومنها حصل على 160 طائرة مقاتلة ودبابات 800 تي 72 في صفقة بلغت 2 مليار دولار لكن يبدو انه سيستخدمها في مكان اخر وليس لبنان كما جرت العادة.
كانت التهديدات الناشئة من داخل سوريا قد تزايدت وسبقها محاولات عدة لتصفيات وقعت لمعارضي سوريا في الخارج، ففي الثامن عشر من مارس 1981 كانت (بنان العطار) زوجة (عصام العطار) وهو مدير المركز الاسلامي في اخن واحد المعارضين لنظام الرئيس حافظ الاسد والذي كان يتخذ من المانيا منفى له منذ العام 1964 على موعد مع الموت حينما فتحت الباب امام اثنين من المسلحين اردوها قتيلة بينما كان زوجها خارج المنزل.
كانت الشرارة الاولى لمحاولة التخلص من حكم البعث في سوريا قد ظهرت في يونيو من العام 1979 حينما قام الاخوان المسلمون بقتل 50 من العلويين في صالة طعام الاكاديمية العسكرية في حلب.
وفي يونيو 1980 قام عدد من المتطرفين برمي قنبلتين على موكب الرئيس الاسد فابعد الاسد احداها بركلها فيما قام احد افراد حمايته برمي نفسه على القنبلة الثانية ليفقد حياته.
وفي محاولة انتقامية قامت قوات عسكرية سورية يقودها اخيه الاصغر (رفعت الاسد) باختراق احد السجون السورية في تدمر واردت 250 اسلاميًا بالرصاص وهم محبوسون في السجن.
المحطة التالية كانت في حماه عام 1982 حينما قام الاخوان المسلمون بقتل احد قادة حزب البعث العربي الاشتراكي وقاموا بالدعوة عبر مكبرات الجوامع بضرورة الخروج والوقوف في وجه النظام.
وفي محاولة منه لملاحقة المتمردين قام الجيش السوري بتدمير نصف مدينة حماة وقتل 10 الاف شخص على الاقل من قاطني ذلك الجزء من المدينة، وهو امر اثار الغرب، لكنه أكد سلطة الرئيس السوري في الداخل حيث اظهر الاسد انه مستعد لسفك الكثير من الدماء من اجل الاحتفاظ بالسلطة.
يقول (كرستوفر روس) المبعوث الاميركي الى سوريا خلال عقد التسعينات ان الرئيس الأسد “لم يكن ليعتذر” عما حصل بل ان الرئيس الاسد كان يرى ان ما قام به كان ضروريًا وان ما سفك الدماء كان ثمنًا عادلاً من اجل انهاء ارهاب الاخوان المسلمين.
كان وقوف سوريا الى جانب ايران قد بدأ في عام 1979 مع نجاح الثورة الاسلامية في ايران ووصول الخميني الى السلطة، وقد رأى الاسد ان العلاقة بين دمشق وطهران ستقوي من موقفه امام عدوه اسرائيل بعد ان ابتعد عنه السادات واتهمه صدام حسين (جاره في الشرق) بالوقوف خلف محاولة قلب نظام الحكم في بغداد.
الأسد لم يهتم كثيرًا بالصبغة الدينية لإيران على الرغم من أن ايران نفسها حاولت تصدير ثورتها الى الخارج، بل كان يرى ان مصلحته مع ايران لن تتوقف على مثل هذه الشعارات.
احتلال صدام للكويت يوفر طوق النجاة للأسد
انشغل الإيرانيون بالحرب مع العراق… حيث كان الأخير منافس سوريا الطبيعي على المستوى الدبلوماسي العربي، وكانت قمة بغداد التي عقدت لعزل مصر قد برهنت أن للعراق دورًا قياديًا عربيًا الآن، ولذلك وجد السوريون في ذلك مصلحتهم لإشغال العراق وإبعاده، وكان ثمن ذلك توفير ممر آمن لإيران إلى لبنان من أجل تدريب المسلحين الإسلامين الشيعة هناك (والذين كانت تراهم الولايات المتحدة متطرفين) وخصوصًا في الجنوب، حيث كان الجيش الإسرائيلي يستقر بعد غزوه لجنوب البلاد.
وافقت سوريا على دعم إيران وتوفير ممر آمن لها إلى لبنان من باب أن الجيش الذي ستكوّنه هناك سيقاتل ويشاغل اسرائيل، وبالتالي لا تستطيع إسرائيل اتهام سوريا المباشرة بشن حرب ضدها، ولكيلا تتهم (سوريا) بأنها تقوم باختطاف الدبلوماسيين الغربيين وخصوصًا مع وجود 30 ألف جندي سوريا في لبنان في تلك المرحلة… ومن هنا جاءت فكرة (حزب الله)!
كانت سوريا قد تلقت اتهامات كافية خلال تلك المرحلة التاريخية… فاتهمت بالوقوف خلف جماعة ابو نضال الذي كان يستهدف اسرائيل واليهود، والمعارضين السوريين، والمسؤولين الاردنيين ومؤيدي عرافات من الفلسطينيين.
ولكن محاولات الاسد الابتعاد عن أي مواجهة مع اسرائيل بالاعتماد على منظمات والحركات المسلحة الاخرى باءت بالفشل مع حلول العام 1986 حينما حاول شخص تفجير إحدى طائرات شركة (العال) الإسرائيلية وقد حاول حماية نفسه من أن يسلم الى السلطات البريطانية باللجوء الى السفارة السورية… فقامت بريطانيا بسحب سفيرها وقامت بالفعل نفسه العديد من الدول الاوربية الاخرى.
كان ذلك الفصل يعد نصرًا يصب في مصلحة الولايات المتحدة التي وضعت سوريا في قائمة الارهاب منذ العام 1979 وكان ذلك الحادث هو الدليل المباشر الاول على تورط الاسد في تلك الاعمال، لكن الاسد أصر على توفير غطاء آمن للعديد من قادة المنظمات الفلسطينية المتشددة.
بدأت ملامح انهيار الاتحاد السوفياتي تتضح مع وصول عقد الثمانينات الى نهايته، حيث كان الاسد يعي جيدًا ان مصدره الاساسي للسلاح والدعم الاقتصادي بدأ ينهار وهنا بدأ يحاول استمالة الغرب إليه وربما الصدفة هي التي انقذت نظام الاسد عدة مرات، ولم تكن تلك الصدفة للتخلي عنه هذه المرة حيث وفر دخول صدام الى الكويت فرصة ذهبية له لكي تفتح ابواب دمشق للغرب من جديد وللولايات المتحدة تحديدًا.
قررت سوريا الانضمام الى حرب الخليج وقوى التحالف الى جانب الولايات المتحدة، وقد ارسلت آلاف عدة من الجنود الى المملكة العربية السعودية لمواجهة العراق، وكان هذا التمثيل رمزيًا لا تأثير له على مسار الحرب، فيما قدمت دول الخليج بالمقابل عدة مليارات من الدولارات الى سوريا على شكل مساعدات.
ومع خروج جميع القوى من حرب الخليج منها المنتصر ومنها المهزوم، رأت الولايات المتحدة ان الوقت قد حان لدعوة سوريا إلى مفاوضات السلام وقرر السوريون لأول مرة في تاريخهم الجلوس وجهًا لوجه امام مفاوضي اسرائيل.
بدأت الصعوبات تظهر مع وصول ادارة الرئيس بيل كلينتون الى السلطة حيث حاول وزير الخارجية الاميركي وارن كريستوفر اقناع جميع الاطراف من خلال زيارات مكوكية الى الشرق الاوسط بضرورة توقيع اتفاق للسلام نجح على الاقل في المسار الفلسطيني الاسرائيلي حينما جرى توقيع اتفاق اوسلو في النرويج… وشعر الاسد بالذعر حينما علم ان رئيسًا آخر ظهر في الشرق الاوسط سيسحب الاهتمام منه وهو عدوه اللدود… ياسر عرفات.
بدت الامور تسير على ما يرام حينما عبرت حكومة اسحاق رابين عن رغبتها في التفاوض مع سوريا عبر القول إن الانسحاب من الجولان أمرٌ قابل للأخذ والرد، فيما عبر الاسد عن رغبة سوريا في المشاركة في تحقيق السلام، وهنا بدأت الدبلوماسية الاميركية تعمل بجد حيث قام وزير الخارجية الاميركي وارن كرستوفر بـ 20 زيارة الى سوريا والتقى الرئيس كلينتون الاسد مرتين في جنيف ودمشق ليكون اول رئيس اميركي يزور دمشق منذ ريتشارد نيكسون.
ولكن الأمور انهارت حينما فشلت المحادثات بين الرئيس كلينتون والرئيس الأسد في جنيف… فعلى الرغم من عدم وجود اي اشتباك في الجولان بين سوريا واسرائيل بعد عام 1974، إلا أن الشكوك بين الطرفين الاسرائيلي والسوري لم تسمح للطرفين بالتوصل الى حل، فالاسرائيليون لم يكونوا مستعدين للانسحاب الى حدود العام 1967 وهو إن تم سيجعل سوريا تسيطر على بحيرة طبرية وهي مصدر المياه الرئيس لإسرائيل.
بينما شعر الاسد أن لا وجود لسلام إذا لم يقم باستعادة ملمتر واحد من الارض التي اغتصبت منه ورفض محاولات اسرائيل الحصول على علاقات طبيعية وفتح التجارة بين البلدين ومن ثم التفكير بالسلام لأنه اعتقد ان اسرائيل ستستعبد العرب تجاريًا للتوصل الى سلام فيما بعد.
داخليًا كان الاسد يحاول تقوية سلطته في سوريا وتهيئة الظروف امام ابنه (باسل) للوصول الى السلطة.. فباسل كان ضابطًا في الجيش السوري وبطلاً رياضيًا ايضًا.
في ديسمبر/كانون الأول من العام 1991 فاز الاسد باستفتاء على رئاسته حصل فيه على نسبة 99.9% من تأييد الشعب السوري وقال احد الكتاب السوريين المعارضين الممتعضين في احدى كتاباته بأنه “حتى لو كان الله قد رشح نفسه في الاستفتاء، لما كان قد حقق مثل هذه النتيجة”.
تعرضت خطط الاسد لتوريث الحكم الى ابنه باسل للانهيار حينما قتل ابنه في حادث سيارة عام 1994 على الطريق الرابط بين دمشق وبيروت، وقيل إن عصابات المخدرات كانت تقف وراء مقتله فيما قالت اشاعات اخرى ان (رفعت الاسد) الذي نافس الاب على الحكم ربما وقف خلف هذه التصفية دون ان يرد أي اثبات في هذا الشأن… لكن الاب سرعان من اختار التالي ليعده لرئاسة البلد وكان ابنه.. بشار.. والذي كان يدرس جراحة العيون في لندن.. وبينما كان بشار يجلس في شقته في لندن رقي عسكريًا ليأخذ ارقى رتبة عسكرية وبدأ الاعلام السوري يروج له على انه “امل سوريا”.
وسعيًا لدعم سلطات ابنه جرد الاسد شقيقه الاصغر (رفعت) في فبراير عام 1998 من المنصب الشرفي الذي كان يحتله باعتباره نائباً للرئيس.
كان الاسد يخاف من تجربة سابقة جمعته بأخيه رفعت خصوصا حينما نقل الاسد الى المستشفى في نهاية العام 1983 فقام رفعت بمحاولة استخدام نفوذه على الجيش للسيطرة على السلطة وكاد ان يشعل الحرب الاهلية في البلد، وبالتالي ابعد حافظ اخيه رفعت من البلاد في الفترة بين 1984 و1992 حيث عاش الاخير في المنفى.
كان الهاجس الاساسي للاب هو معرفة إن كان بشار قادرًا على قيادة البلد والسيطرة امنيًا على القلائل بالطريقة نفسها التي عرف بها والده طوال ثلاثين عامًا… كان الاسد يحاول خلال ثلاثين سنة الوصول إلى معادلة مناسبة تمكنه من استعادة مرتفعات الجولان دون أن ينجح في ذلك.

* نقلا عن صفحة الكاتب في منصة إكس
+ المصادر أرشيف نيويورك تايمز ومجلة تايم الأميركية وكتاب باتريك سيل (اسد سوريا.. معضلة الشرق الأوسط) والبروفايل نشر في صحيفة ايلاف الالكترونية عام 2008.