آخر الأخبار

spot_img

جارالله عمر.. أيقونة النضال والدولة المدنية

“صحيفة الثوري” – في الذاكرة:

د. عبدالوهاب الروحاني
جارالله عمر.. أيقونة النضال والدولة المدنية (1)

لم تٌجمع النخب الوطنية اليمنية باختلاف اتجاهاتها وتنوع مشاربها الفكرية والسياسية والثقافية على شخصية وطنية كما اجمعت على جارالله عمر.. وطني تلون بلون التربة والقرية.. رضع المعاناة صغيرا فكد وكافح وامتهن النضال من النشأة حتى الرحيل المفجع والمبكر؛ التعليم الذي ورثه جارالله عن أبيه “معلم الكتّاب” في قريته الصغيرة بالنادرة كان مدخله الى عالم المعرفة، ومعترك الحياة السياسية في وطن عانى – ولا يزال- من جور واستبداد الطغاة، فتعلم من اصول الدين والفقه في المدرسة الشمسية بذمار، ثم دار العلوم في صنعاء الامر عزز عنده من مفهوم رفض الظلم ومقاومة المستبدين.

تعلم كغيره من شباب جيله أن العدالة في الاسلام فريضة على الحاكم تجاه المجتمع والشعب الذي يحكمه، وتعلم من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحرارا”؛ فمضى جارالله عمر يبحث عن الحق والعدل فلم يجده في الواقع، ولكنه وجده في كتيبات ومنشورات ما يتبادله الشباب عبر حلقات الدرس ونقاشات الزملاء في الادب والسياسة في المدرسة والمسكن، وتجمعات الأصدقاء.

تحدى جارالله عمر الظروف الصعبة التي مر بها، وعبَرَ من القرية الى المدينة، والمدرسة، الى ميدان العمل السياسي، فشارك في انشطة حية بحثا عن العدالة ومطالبة للحرية قبل ثورة سبتمبر 62 وبعده؛ في كلية الشرطة درس القانون واجاد فهم اركان الجريمة ومسببات العقاب، وانضم لهيئة التدريس فكبرت مساهمته في تنمية الوعي السياسي بين زملائه وطلابه، وكان لارتباطه المبكر بخلايا القوميين العرب (1960) دورا في تنمية وعيه السياسي وتطوير علاقاته التنظيمية والحزبية.

كان جارالله عمر عنصرا فعالا في مظاهرات دعم وتأييد الثورة والجمهورية، ثم مشاركا في الدفاع عن العاصمة صنعاء أثناء حصار السبعين يوماً (28 نوفمبر 1967 – 7 فبراير 1967)، انتماءه الحزبي تسبب له الكثير من المتاعب؛ فتعرض للملاحقة والاعتقال ثم السجن إثر احداث اغسطس 1968، وتعرضت اسرته للمضايقة في قريته “كهال” وفق شهادته في “مذكرات جارالله عمر” .

نضال أم تخريب؟!

اضطرته الملاحقة الامنية بعد خروجه من سجن القلعة بقصر غمدان الى الانتقال الى عدن عام 1971، حيث بدا نشاطا تنظيميا وسياسيا شكل مرحلة جديدة في حياته السياسية، من حيث كونه أصبح قياديا في الحزب الديمقراطي الثوري اليمني، ثم عضوا في المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني، شارك في تأسيسه في 14 أكتوبر 1978، وتولى مسئولية نشاطه في الشمال تحت مسمى حزب الوحدة الشعبية اليمني (حوشي)، الذي سبقه تشكيل الجبهة الوطنية الديمقراطية (1975-1990)، التي تولت حينها مهمة مناوشة النظام في صنعاء عبر النشاط المسلح في المناطق الوسطى.

القضية الوحيدة التي (ربما) اعتورت النشاط السياسي والتنظيمي لجارالله عمر في نظر منتقديه هي انخراطه في تنظيم العمل المسلح ضمن قيادات الجبهة الوطنية (1978 ـ 1983)، التي اشعلت المواجهات في المناطق الوسطى (تعز، اب، البيضاء، ذمار، وريمة)، وتسببت في زعزعة أمن واستقرار البسطاء من المواطنين، فكانت اقرب الى التخريب منها الى النضال؛ صحيح ان النشاط المسلح في تلك المناطق فرض على صنعاء شروطا جديدة للتفاهم مع قيادة الجبهة الوطنية، التي كان جارالله عمر أحد ابرز قادتها الى جانب سلطان احمد عمر، لكنها خُصمت بالضرورة من الرصيد النضالي له ولزملائه، لان المواطن كان هو الضحية، وكان المتضرر الاول منها، وهو من دفع ثمنها غاليا من أمنه وأهله وأولاده وأسرته.

هكذا عرفت جارالله؟!

كان جارالله عمر شخصية قيادية وسياسية معروفة على مستوى الساحة اليمنية، برز اسمه بعد اشتعال المواجهات بين حكومة صنعاء والجبهة الوطنية (المدعومة من حكومة عدن) في المناطق الوسطى (78-83)، عرفتُ الكثير عن الرجل منذ كنت طالبا في الاتحاد السوفيتي (79 – 85)، حيث الكثير من الطلاب اليمنيين موفدين عبر عدن والجبهة الوطنية، التي كان جار الله عمر أحد أبرز قادتها، وكانت لقاءات الزملاء ومنتديات رابطة الطلاب اليمنيين التي كان اليسار مسيطرا عليها، لا تخلو من الحديث عن جارالله وعن انشطة ومواجهات الجبهة في الشمال.

عرفت جارالله عمر أول ما عرفته وسمعت عنه عن طريق زميل ابتعث لدراسة المكتبات في منسك (روسيا البيضاء) بعد اصابته في حروب الجبهة الوطنية، وتعرض منزله للتخريب واسرته للتشريد.. عبدالله خالد (الشرعبي) كان أحد قيادات الجبهة الميدانيين في شرعب.. حدثني بشغف كبير عن جارالله عمر.. ثقافته، نظافة يده، شجاعته، اخلاصه للقضية التي كان يقاتل من اجلها..

كان عبدالله خالد يحمل هموما بحجم الجبال وهو يسرد بعض القصص في مواجهات الجبهة في تعز وبقية المناطق الوسطى، ومعاناة اهله وضحايا الصراع بين الشطرين (الشمال والجنوب).. كان يحاول اخفاء حسرته وانكساره عبر الهروب الى عوالم النسيان لكنه لم ينس انه ظَلَمً وظُلمْ – كما كان يقول لي و”بيني وبينك”..!!

المهم كان صاحبي “المناضل” المنكسر عبدالله خالد أول من عرفني بالقيادي الوطني الاشتراكي جارالله عمر، الذي ظللت اتتبع اخباره وانشطته عبر قراءة صحيفة “الامل” الناطقة باسم الجبهة الوطنية الديمقراطية، التي كان يقف ورائها، وصدرت في صنعاء بهيئة تحرير مهنية رأسها الاستاذ سعيد الجناحي بعد التفاهم مع الرئيس صالح (1980)، فصارت متنفسا لعموم اليسار اليمني ولمنتقدي النظام في صنعاء، وكانت الصحيفة توزع عبر رابطة الطلاب اليمنيين في عموم مدن الاتحاد السوفيتي.

 

جارالله عمر.. أول لقاء وآخر فرصة (2)

أكثر من مناسبة وأكثر من لقاء جمعني بجارالله عمر.. تحاورت معه (شخصيا) في قضايا التصالح والتحضير للوحدة في أواخر الثمانينات، وفي أهم حضور علني له في صنعاء، حينما جاء لمقابلة الرئيس صالح، ليس كممثل للجبهة الوطنية والحزب الاشتراكي، وإنما كمحاور رئيس في تقريب وجهات النظر من أجل الوحدة.. التقيته في منتديات وجلسات خاصة بعد الوحدة ايضا، كان ضمنها لقاءات مصادفة مع الرئيس صالح (رحمه الله)، الذي تأكد لي انه كان يحترم جارالله عمر بقدر حذره منه.. قال عنه ذات مرة: “جارالله من أكثر الاشتراكيين نزاهة ومصداقية”، كان ذلك بعد مشادة كلامية بينهما حضرتها في خيمة الرئيس (بدار الرئاسة) على خلفية التوترات السياسية والاعلامية قبل فوضى 1993، التي حركها الاشتراكي في صنعاء.

أول لقاء جمعني بجارالله عمر كان في فندق رمادا حده في صنعاء قبل عام من قيام دولة الوحدة (1990).. كان في أهم محطات تواجده في صنعاء بعد تجاوز رهان السيطرة عليها بـ”العنف الثوري”، وفي اطار الترتيبات التي كانت تتسارع في نهاية الثمانينات لتحقيق الوحدة، حين كان الرئيسان علي عبدالله صالح من صنعاء، وعلي البيض من عدن يتسابقان لاختطاف النصر العظيم بإعلان مبادرات الوحدة.

كان جارالله يقيم في الفندق محاطا بحراسة مشددة بمداخل الفندق وممراته، ذلك لأن حمايته كانت مسئولية الرئاسة، فهو زعيم اشتراكي ماركسي “كافر” في نظر اليمين الديني المتطرف، وكان هدفا ثأريا محتملا لأهالي ضحايا أعمال العنف والتخريب في المناطق الوسطى، وفوق كل هذا بدا لي (حينها) ان الرئيس صالح اراد أن يشعر جارالله بأن حياته معرضة للخطر دون حمايته (وكانت كذلك)، وهو ما كان يوحي به لكثير من المعارضين لسياسته.

دخلت بهو الفندق ومررت بثلاث محطات حراسة، الاولى والثانية أمنية (رسمية) عند مداخل الفند، والثالثة حراسته الشخصية على باب الجناح الذي يسكنه.. بسيط ومتواضع، من لا يعرفه لا يفرق بينه وبين حارسه الشخصي.. كلاهما بقامة قصيرة وشنب، وعيون حادة، بادرني مرحبا بطريقته:

– اهلا يا ابن الروحاني، تعجبني مشاغباتك، ولو أنك تقسو في بعضها.. وكان يقصد ما كنت اكتبه من نقد لتجربة الحزب في الجنوب في عمودي الاسبوعي “الكلمة موقف” في صحيفة 26 سبتمبر بعد سلسلة زيارات مهنية قمت بها لعدن، في إطار توحيد نقابة الصحفيين اليمنيين مع زملاء وممثلي منظمات مهنية وابداعية.

كان لطيفا جدا، قابلني بابتسامة عريضة ونظرات تبرق ذكاء وحدة، وكأننا أصدقاء وعلى سابق معرفة، حديث طويل بدأ خاصا ووديا، ثم بحروب الجبهة، والمصالحة، والأحزاب، والترتيب لمسار الوحدة وشكلها ونظامها، وانتهى بتأثير انهيار المنظومة الاشتراكية بزعامة موسكو على نظام الحزب والدولة في الجنوب، ومدى تأثره ب”الغلاسنوست السوفياتية”، فقال مبتسما ” يا عبدالوهاب، نحن أكثر الشعوب حاجة للمكاشفة والمصارحة حتى نصحح وضعنا ونبني دولتنا، ان اردنا ان نبي دولة يمنية حديثة وموحدة…”، الكثير من الحقائق حول المشهد السياسي وتناقضات اللحظة كانت تنساب بسلاسة على لسانه..

شفافية ورسائل:

في حديثه صدق وشفافية لدرجة ملفته، أوصل من خلاله رسائل كثيرة للرئيس صالح، وللقيادات السياسية اليمنية من اقصى اليمين الذي كان مناهضا للتوحد مع “النظام الشيوعي الكافر” في الجنوب إلى اقصى اليسار الرافض للوحدة مع “النظام الرجعي المتخلف” في الشمال.. كان جارالله مع المقاربات السياسية بين القوى والأحزاب، وكان يرى “أن الجميع معني بالحاضر والمستقبل، بينما خلافات الماضي يجب أن نتركها لمحاكمة التاريخ” .

امتلك جارالله عمر روح المبادرة، وعُرف بديناميكيته ونشاطه المؤثر في الوسط السياسي لقوى اليسار عموما؛ فبعد البروستريكا والغلاسنوست (الإصلاح والشفافية) السوفيتية في حقبة غورباتشوف وتداعياتها على بلدان المنظومة الاشتراكية كان هو أول من دعا إلى الاصلاحات وتبنى التعددية السياسية والحزبية، وحرية الرأي والتفكير في الشطر الجنوبي قبل الوحدة، وهو أول من دعا بعد الوحدة، وفي آخر كلمة له قبل اغتياله الى “تفعيل الديمقراطية بداخل الأحزاب” واعتبرها “ضرورة لتجنب الصراعات وحماية الاوطان من التشظي وويلات العنف والحروب الداخلية”.

ديناميكية جارالله عمر السياسية ورؤيته التجديدية في المواكبة والتحديث، مكنته من أن يلعب دورا مهما في تحريك ملف الوحدة؛ فكان من وقت مبكر ممسكا بملف الاشتراكي في الشمال، وكان هو الأقرب الى فهم نظام صنعاء والتركيبة القبلية والاجتماعية التي كانت تحكمه، وكان – بالتأكيد – مع فكرة قدرة الاشتراكي على احتواء القوى السياسية والاجتماعية في ظل الوحدة، وتغيير النظام بما يتوافق مع منهج الاشتراكي، غير أنه كما معظم قيادات الحزب استطمت بنتائج أول انتخابات برلمانية في العام 1993 حيث حصد الحزب المركز الثالث بعد المؤتمر (حزب الرئيس)، وحزب الإصلاح (إخوان)، الأمر الذي لم تستوعبه ولم تتقبله أبرز قياداته وعلى رأسهم نائب الرئيس علي سالم البيض، الذي اعتبر النتائج انقلابا على الوحدة، التي قامت على قاعدة التوافق والمناصفة بين النظامين الشطرين السابقين.

كانت التوترات السياسية تشير الى انسداد وضع الشراكة السياسية بين الشريكين (الحزب الاشتراكي، والمؤتمر الشعبي)، وكنا في وسائل اعلام المؤتمر والاشتراكي جزءا من تلك التوترات، وانشغلت وسائل الاعلام العربية والأجنبية بالتطورات التي قادت خلال العام 1993 إلى حملة تفجيرات ومحاولة اغتيال طالت الكثير من قيادات الاشتراكي، بدأت بمحاولة اغتيال وزير العدل د.عبدالواسع سلام، وأنيس حسن يحيى، وعلي صالح عباد (مقبل)، ثم اغتيال عضو اللجنة المركزية للحزب العميد ماجد مرشد، وتفجيرات بمنازل يحيى حسين العرشي (مؤتمر)، وياسين سعيد نعمان (اشتراكي)، ولما كنت رئيسا لتحرير صحيفة “22 مايو” (مؤتمر) وممثلا لجريدة الخليج (الإماراتية) في صنعاء كنت -بالتأكيد- منحازا لرواية المؤتمر في تفسير الأحداث، الأمر الذي ازعج الاشتراكي (وهو المهتم كثيرا بالإعلام الداخلي والخارجي)، وابلغني الأستاذ يحيى المتوكل (الأمين العام المساعد للشئون السياسية للمؤتمر) استياء جارالله عمر مما اكتبه في “الخليج”، وقال “ربما انه قد تواصل برئاسة تحرير الجريدة ، وشكى اليهم عدم حيادية ما تكتبه”.. وبدا لي ان الأستاذ المتوكل حريصا على استمرار تواصلي ب “الخليج”، فوعدته رغم انشغالي بـ”صحيفة 22مايو” وعضوية مجلس النواب.

في اليوم التالي، وبهدوء اوصلت رسالتي لادارة تحرير “الخليج” وقلت بالحرف “ما اكتبه يعبر عن فهمي لمجرى الأحداث في صنعاء، واذا كنتم ترون غير ذلك فيمكنكم الاستعانة بمن ترونه مناسبا”، وبذلك انتهى تواصلي مع “الخليج”، وكان الزميل صادق ناشر (اشتراكي) هو البديل.. لم أكن مهتما بالأمر كثيرا، ولربما كان جارالله محقا، ولكنها رواية أوردها هنا لتبيان انزعاج وتأثر جارالله عمر بأحداث 1993، التي قادت الى احداث الشرخ الكبير في علاقة شريكي الدولة والوحدة.