(صحيفة الثوري) – كتابات
خلدون أحمد حسن عبدالله
لما كان الضوء الأخضر الأمريكي لكييف باستخدام الصواريخ الباليستية لضرب العمق الروسي تصعيداً خطيراً في صراع لم تفتر نيرانه منذ عامين واستُخدمت فيه شتى الأسلحة والتكتيكات الحربية؟ وهل يقتصر تأثير السلاح، المستجد على الحرب، على الأبعاد التكتيكية المرتبطة بخيارات القتال في الجبهات، أم أن مداه يصل إلى المستويات الاستراتيجية، حتى يدفع بموسكو إلى مراجعة عقيدتها النووية؟
منذ انطلاق الحرب، ظلت أوكرانيا تقاتل بسلاح ودعم غربيين. وخلال الأشهر والمعارك الماضية، عمدت كييف إلى ضرب مواقع عسكرية في العمق الروسي باستخدام الطائرات المسيرة، دون أن يفضي ذلك إلى تغيير قواعد الاشتباك بصورة فارقة أو إثارة حفيظة موسكو بصورة استثنائية. هذا يعني أن رد الفعل الروسي على التصعيد الأمريكي هذه المرة لا يرتبط بالغاية – تمكين أوكرانيا من ضرب العمق الروسي – ولكن بالوسيلة في حد ذاتها، وما تمثله من تبدل في قواعد الاشتباك والحسابات الاستراتيجية لجميع الأطراف، والمشهد الجيوسياسي العام.
بينما لا يُتوقع أن تقلب الضربات الباليستية توازن القوة على الأرض أو تغيّر مجرى المعارك في الجبهات المشتعلة، يمثل استخدام هذه الصواريخ خروجاً عن منظومة الأسلحة التقليدية، وتصعيداً باستخدام الأسلحة الاستراتيجية – طويلة المدى ويمكن أن تحمل رؤوساً نووية – في سابقة هي الأولى تاريخياً. ما يفتح الأبواب أمام التصعيد النووي ومقدماته بالتبدل في عقيدة الكرملين في إجازة استخدام سلاح الدمار الشامل.
بالإضافة إلى ذلك، قد يحمل استخدام أوكرانيا للصواريخ الأمريكية تبدلاً في استراتيجية الولايات المتحدة، ومن خلفها الناتو، من حرب الوكالة وتمرير الصراع، إلى التدخل المباشر بصورة محصورة. إذ أن إطلاق وتسيير الصواريخ الباليستية يستوجب تدخل الأقمار الصناعية والمهندسين الأمريكيين. ما قد يسحب الأطراف إلى دوامة من الرد والضربات الانتقامية في حالة تعاطت موسكو مع الهجمات باعتبارها أمريكية/غربية المصدر.
البيت الأبيض، ومن خلال هذا التصعيد، تجرأ على تحدي وخرق القواعد التي احتكمت عليها العقيدة العسكرية واستراتيجيات التنافس بين الولايات المتحدة وروسيا منذ الحرب الباردة، والتي حالت دون اندلاع حرب نووية على مدى 70 عاماً من صراع النفوذ بين القطبين العالميين. وتمثلت في الاتفاقيات المكتوبة كاتفاقيتي الحد من الأسلحة الاستراتيجية (SALT I & SALT II)، والقواعد غير المكتوبة – والسارية دائماً – للردع النووي.
في الجانب الآخر، تتمادى إدارة بايدن في الرقص على الخطوط الحمراء، مطمئنة إلى عاملين مهمين قد يسهمان في لجم الغضب الروسي. في المقام الأول، يعوّل البيت الأبيض – وبقدر من الإفراط – على فعالية الردع النووي في تخويف موسكو من اتخاذ أي إجراء قد يؤدي إلى استفزاز ضربات نووية انتقامية عليها.
أما في المقام الثاني، تدرك الإدارة الحالية للمكتب البيضاوي أن بوتين والكرملين ينظران بتفاؤل إلى رئاسة ترامب والإدارة المقبلة على الأبيض، وما تميل إلى طرحه من خيارات لإنهاء الصراع تصب في المصلحة الروسية. فمبادرة نائب الرئيس “جي دي فانس” تطرقت إلى إيقاف الحرب وإقرار روسيا على ما استولت عليه من أراضي أوكرانيا، وتقديم ضمانات ببقائها طرفاً محايداً بين الشرق والغرب. ما يعني ضمنياً إثباتاً للحق الشرعي لروسيا في الحرب وتثبيتاً لجزء كبير من مكاسبها وأهدافها الاستراتيجية. ولذلك، تفترض إدارة بايدن أن نظيرتها في الكرملين قد تكون أكثر قابلية لتحمل التجاوزات الأمريكية، والتصبّر على التصعيد الاستراتيجي.
في الجانب الآخر، يرى محللون أن رفع الحظر الأمريكي عن استخدام الأسلحة الاستراتيجية ليس سوى خطوة يائسة من الإدارة الحالية لحفظ ماء وجهها في أوكرانيا، قبل صعود ترامب، الذي سيتم إلقاء ملامة الخسارة عليه. وفي كل الأحوال والسيناريوهات، يمكن الإجماع بأن البيت الأبيض يلعب بالنار بالقرب من الزيت والقش الجاف.