ليس لأنه سيأتي، بل لأننا لم نعد نعرف ما نفعل إن لم ننتظر!
“صحيفة الثوري” – ثقافة وفكر:
إياد أحمد
بينما كانت (في انتظار غودو) تطبق الآفاق بشهرتها عبر عروضٍ لا تتوقف على خشبة مسارح المدن، كانت أيضاً تتسلل إلى زنازين العالم المغلق، وتجد لها مساحة في أكثر الأمكنة تهميشاً. يروي لنا لويس عوض أن عرضاً خاصًا لهذه المسرحية أُقيم داخل سجن سان كونيتين بكاليفورنيا، في باحة مطوقة بأسوار شاهقة لا ينفذ منها الضوء. هناك، وسط كتل الأسمنت والأسلاك، لم يكن العرض مجرد فرجة، بل لحظة انكشاف وجودي. حينها سُئل أحد السجناء عن رأيه، قال بلا تردد: “نعم، نحن ننتظر غودو… وغودو بالنسبة لنا هو كل ما يقف خارج هذه الأسوار القاسية!”.
تلك العبارة الكاشفة لا تعكس فقط حال السجناء، بل حالنا جميعاً حين نُسجن في انتظار لا نملك مفاتيحه. فالانتظار، في زمن الحرب، يتحول إلى استعارة شاملة لكل ما هو نقيض لها: نقيض للفقد والخذلان، لمخيمات اللجوء وبرامج الإغاثة، للشتات، للحياة المؤجلة والآمال المهدورة، الانتظار يصبح شكلاً من أشكال المقاومة، رغم عبثيته، لأنه يصر على وجود معنى ما خارج الجحيم.

من هو (غودو) بالنسبة لليمنيين؟ في لحظة شعور رث نابت على إيقاع الأغاني الوطنية، خيل لي أن غودو هو (الجمهورية) التي ما تزال معلقة، محملة بكل الوعود الكبرى التي أودعها اليمنيون فيها: الانعتاق، الكرامة، الحرية، العدالة… لكنها لم تأتِ. كأن الجمهورية أُعيد اختراعها كحلم يقيم في المستقبل المؤجل إلى ما لا نهاية، حلم يتغذى على صبر الناس، ولكنه لا يمنحهم شيئاً.
في مسرحية بيكيت، لا شيء يتحرك حتى الزمن. الخلفية الديكورية للمسرح خالية إلا من شجرة عارية، تنبت في فصلها الثاني بضع أوراق، في تلميح عابر إلى أن الانتظار قد يُزهر. لكن من يلاحظ تلك الأوراق القليلة؟ من يهتم بزهر يأتي متأخراً في صحراء العبث؟ ربما همس بيكيت حينها أن جحيم الوجود قد لا يكون الألم المباشر، بل ذلك الفراغ الزمني الذي نُلقى فيه، بلا قدرة على التقدم أو التراجع، نعلق كل معنى على وعد لا يصل، وندعوه (غودو)!
في السجون، كما في الجمهوريات المؤجلة، قد يطول العرض لكن خشبة المسرح تبقى خالية في نهاية اليوم، لا مبالية بمن رحل، ولا بمن انتظر! وهكذا، نحن لا نهدر في الحرب وحسب، بل نستهلك فيما وراءها، في انتظار ما لا يأتي! انتظار يشبه العبث، ولكنه وياللمفارقة! انتظار يملأه الحنين، والإيمان المتعب، والخيبات التي لا تزال تتمسك بأمل صغير بأن شيئاً ما قد يتغير…وربما، فقط ربما، قد يأتي (غودو) ذات ظهيرة صنعانية أحبها القلب دوماً!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشارة:
– لويس عوض- الاشتراكية والأدب.
– مقال نشر بمجلة المسرح الأمريكي (لا شيء سوى الزمن: حين جاء “غودو” إلى سانكوينتن)، 2019.
– AMERICANTHEATRE | Nothing But Time: When ‘Godot’ Came to San Quentin
– نشرت المادة في نشرة رفّ الخميس الثقافة