آخر الأخبار

spot_img

اللوحة وأنا (2)

“صحيفة الثوري” – ثقافة وفكر:

د/ بشير أحمد أبواصبع 

مرت الأيام، ولم أنسَ تلك الصفقة الغريبة. كنتُ كل ليلة أستلقي في فراشي، وأتساءل: هل كنتُ أحمقًا؟ هل بعتُ وهمًا لنفسي؟ أم أنني، دون وعي، اشتريتُ سحرًا لا تدركه العيون؟

ثم جاء اليوم الموعود.

في المساء، بينما كنتُ عائدًا إلى المنزل، وجدتُ طردًا أمام بابي، مستطيل الشكل، مغلفًا بعنايةٍ مثيرةٍ للقلق. كان لا يحمل عنوانً المرسل فقط اسمي مكتوبٌ بخطٍ أنيق، كأن أصابع فنانٍ قد خطّته بحبرٍ ممتزجٍ بشيءٍ من روحه.

حملته بين يدي، شعرتُ كأن ثقله ليس وزنًا فقط، بل وعدٌ مجهول، شيءٌ يُضمر سرًا لا يُباح.

أغلقتُ الباب خلفي، جلستُ في زاوية الغرفة، وضعت الطرد أمامي. كنتُ أسمع صدى كلمات الرسام يتردد في رأسي:

“لا يمكنك النظر إلى اللوحة… وإلا ستلاحقك لعنة البؤس والقبح إلى الأبد!”

ضحكتُ، لكنها كانت ضحكةً خافتة، مشوبةً بالتردد. لماذا قد أخاف؟! هل نحن أطفالٌ نرتعد من الخرافات؟

لكن، ماذا لو…؟

نهضتُ، وأخذتُ سكينًا، وبدأتُ بشق الورق المغلف. بداخله، كان هناك إطارٌ خشبي، تتسلل منه رائحة الطلاء الحديث، وكأنه للتو خرج من بين أصابع فنانٍ مهووس.

وضعتُ اللوحة على الطاولة. لم أرَ وجهها بعد.

توقفتُ، ووضعتُ يدي على حافتها، وتساءلتُ بصوتٍ خافت:

“هل حقًا سأخسر كل شيء إن نظرتُ؟”

ظللتُ صامتًا، كأنني كنتُ أنتظر إجابةً من الفراغ. ثم، ببطءٍ، كمن يفتح بابًا نحو مصيرٍ مجهول، قلبتُ اللوحة.

في اللحظة الأولى، لم أستوعب ما رأيت. كان هناك شيءٌ أمامي، لكن عقلي رفض فهمه. شعرتُ ببرودةٍ تزحف على جلدي، ثم، كأن جدارًا انهار في داخلي، بدأتُ أرى.

كانت اللوحة… أنا.

لكنها لم تكن مجرد صورة، بل انعكاسٌ مظلمٌ مني، كأن روحي سُحبت من جسدي وسُجنت في إطارٍ من الطلاء والألوان. كانت الملامح لي، لكنها ليست لي. كانت الابتسامة على شفتي، لكنها لم تكن ابتسامتي. كانت العينان تحدقان بي، لكنهما كانتا تلمعان بشيءٍ يشبه الحياة… أو الموت.

تراجعتُ خطوتين. شعرتُ بدوارٍ مفاجئ. أردتُ أن أغلق عينيّ، أن أهرب من تلك النظرة التي تبتلعني، لكن شيئًا في أعماقي كان قد تحطم بالفعل.

ثم حدث شيءٌ لم أكن مستعدًا له.

داخل اللوحة، تحركت شفتيَّ المرسومتان… وتحدثتا.

“لقد نظرتَ.”

أٌطفأتُ الأنوار.

وساد الظلام.

١٤/٢/٢٠٢٥